في آخر تصريح له، قال القيادي في حماس "محمود الزهار": "دفعنا ثمن المطار والميناء، وآن لحماس تسلم السلطة بالضفة". ورغم قِصَر التصريح، إلا أنه ينطوي على أهمية بالغة؛ فهو أولاً استمرار لتصريحات سابقة دعا فيها إلى الإستيلاء على المقاطعة، وإسقاط السلطة، وثانيا لأنه يكشف بشكل غير مباشر عن فهمه لمغزى الحروب التي شُنت على غزة.
إذا كانت دعوة "الزهار" لتسلم السلطة في الضفة في سياق نهج التداول السلمي للسلطة لا يحق لأحد الاعتراض، ولو أتت في إطار مشروع تحرير القدس وبقية فلسطين، فسأكون جنديا في صفوفها؛ لكن الحقيقة وللأسف في وادٍ بعيد .. فبداية، علينا أن نقر بأن غزة لم تتحرر حتى تنطلق لتحرير مناطق أخرى .. وبالتالي فإن دعوة الزهار إما أنها في سياق ترتيبات أمنية مع الاحتلال، تأتي كاستكمال للتفاهمات التي تم التوصل إليها برعاية تركية لتثبيت التهدئة ورفع الحصار، وإما أنها سعي محموم للسلطة، أو لإثارة فوضى أمنية في الضفة .. أو أنها مجرد تفوهات خارجة عن أي سياق.
أما الشق الأول من التصريح، فهو يعني بكل وضوح أن التضحيات التي قدمتها غزة في حروبها الثلاث كانت للحصول على ميناء ومطار، وهذا كان واضحا في اشتراطات حماس لوقف الحرب، التي كانت تنحصر في تحصيل مكتسبات معينة (كانت موجودة وبشكل أفضل قبل عهد حماس)، ويعني أيضا أن إستراتيجية حماس في إدارة الصراع هي تثبيت حُكمها في غزة، بكل ما يحمله ذلك من دلالات في تأبيد الانفصال، وتثبيت الانقسام كحل دائم.
قبل صعود حماس المدوي في غزة كان لدينا مطار دولي، وكان مشروع الميناء قيد التنفيذ، وكانت المعابر مفتوحة طوال الأسبوع، والناس تغادر وتعود دون إعاقات، ولم يكن هناك حصار، ولا مناطق عازلة، وكانت غزة تصدّر الأزهار والفراولة والعديد من المنتجات الزراعية والصناعية إلى أوروبا، وآلاف العمال يعملون داخل الخط الأخضر، ولم تتجاوز نسبة البطالة 16%، وقد شهد القطاع بعد النصف الثاني من التسعينات نهضة عمرانية غير مسبوقة، ونشاط اقتصادي دؤوب، وكانت الدول المانحة قد وعدت بعشرات المشاريع العملاقة في المجالات السياحية والصناعية والبنية التحتية.
والأهم من ذلك كله، كان الشعب الفلسطيني موحدا، والعلاقات مع دول الجوار طيبة، وكانت الجماهير تحتفظ بنبضها النضالي، لدرجة أنها فجرت انتفاضة شعبية مسلحة .. حتى فصائل العمل الوطني كانت بحال أفضل، ولديها الكثير لتقدمه، وحماس نفسها نمت وترعرعت في ظل السلطة وتحت ناظريها.
اليوم، كل ما ذُكر أصبح من الماضي، ولم يعد له وجود؛ بل أن الأمور تدهورت لدرجة غير محتملة؛ فقد تدمرت قطاعات الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة بشكل كبير، ونشأ اقتصاد مشوه قائم على تجارة الأنفاق، وبلغت نسبة البطالة 45%، (عدى البطالة المقنعة) ونسبة الفقر وصلت 60%، فضلا عن انقطاع الكهرباء، وتلوث مياه الشرب، وتدمير مئات البيوت والمنشآت .. والأسوأ من ذلك كله، أن أغلبية الشبان فقدت الأمل، وأصبح جل تفكيرها في الهجرة، حيث أن الحياة في القطاع صارت ضربا من العذاب والمعاناة.
صحيح أن حماس لا تتحمل وحدها كامل المسؤولية، وأن جزءأ كبيرا من الدمار قد لحق بالقطاع في فترة الانتفاضة؛ لكن طريقة حماس في إدارتها للقطاع (خاصة بعد الانسحاب الإسرائيلي) هي التي جلبت له الكوارث والويلات؛ فقد جعلت حماس من نفسها، ومنذ البداية، مجرد أداة للإخوان المسلمين، وصار مشروعها هو مشروعهم، وأجندتها المحلية مكرسة بالكامل لتنفيذ أجندات خارجية لا علاقة لها بالقضية الوطنية، وجعلت كل تركيزها منصبا على قضايا هامشية وشكلية، كتعويض عن إخفاقها في التصدي للمسائل الكبرى ..
الحالة المزرية التي انحدرت إليها غزة، جزء كبير منها نتاج للتدهور العام في حال القضية الفلسطينية، وهنا الجميع يتحمل المسؤولية، لكن حماس تتحمل مسؤولية الخراب الذي أصاب كافة مناحي الحياة اليومية، وانعدام الخدمات وغيرها، وتتحمل مسؤولية الانقسام واستمراره لحد الآن، وتأخر إعادة الإعمار ... لأنها أصرت على الانفراد بالسلطة، ولأنها رفضت وما زالت ترفض وجود أي شريك معها (إلا إذا كان تابعا لها)، ولأنها جعلت مصلحة الحزب وأيديولوجيته فوق المصلحة الوطنية. وهذا ما يحصل عادة في ظل الأنظمة الشمولية التي يحكمها الحزب الواحد، التي تُشبع جماهيريها بالشعارات والخطابات، وتقنعهم ب"النصر" حتى لو كان كومة ردم.
هنا، لا نشكك بوطنية حماس، ولا نقلل من أهميتها كحركة مقاومة، قدمت تضحيات هائلة؛ لكن الأهم من رفع شعارات "المقاومة" هو كيفية أدائها، حتى لا تصبح وبالا على الشعب. والأهم من الخطابات، هو كيفية إدارة الصراع دون خداع للجماهير، ودون التضحية بها، للحصول على "مطار" كان موجودا أصلاً ...