ارتاح إيلان الطفل السوري الذي فر وعائلته إلى البحر من جحيم البر فأبى البحر إلا أن يعيده إلى اليابسة لكن جثة هامدة. جثته الهامدة التي أيقظت فينا الضمير المستتر وصفعتنا فتركت فوق وجوهنا علامات كسر أزلي لم ترفع من فاعل عربي أو إسلامي ولم تنصب هامة لقائد عربي وضمتنا جميعاً إلى حالة عجز أبدي.
ارتاح إيلان، فلم يعد له اسم في سجلات الأحياء ولم يعد يحتاج إلى بيت يؤويه في شتاء قارس يتضاعف مئة مرة بقسوته على اللاجىء الذي صنع من خيمته بيتاً ينهمر من ثقوبه الماء والثلج فيحول الخيمة إلى بركة ماء يضطر أن يسبح فيها ساكنوها رغم البرد.
إيلان الصغير استمع إلى منادٍ ينادي أن هبوا إلى هجرة جديدة لدى ملوك كفرة لكن لا يظلم عندهم أحد.
إيلان كان يحلم بلعبة حقيقية غير تلك التي تصنعها له أمه من أسمالها البالية والأوراق المتبقية من كتب المدرسة التي انهارت. كان يحلم بأن يركض وهو يخطو أولى الخطوات فوق أرض لا تغوص بها قدماه في الدم. كان يحلم أن يجني ثمراً من شجرة تفاح أو كرز دون أن تتحول الثمرة إلى قنبلة تنفجر بين أصابع والده الذي كان هو يحلم أيضاً بحياة فقط بحياة لإيلان.
المركب التي حملت إيلان كانت ترتفع فوق الموج وتنخفض كأنها ورقة سقطت من شجرة فحملها الماء بعيداً إلى مستقر لا يعرفه إلا الله، وإيلان كان يضحك مع كل موجة تقذف المركب إلى بعيد، ولعله كان يظن أنه يركب أرجوحة في مدينة ملاهي لم يكن يملك والده ثمناً كي يجعله يستمتع بها. لعل الطفل الصغير كان يحلم بأن يجد في البلاد الباردة التي كان يستحث الخطى إليها، تلك الأرجوحة، مجاناً ويستمتع بها، لعله كان يحلم بقلم يرسم فيه على ورقة الدجاجة التي لا يعرف طعمها والحلوى التي تتذكرها شفاه إذا ما ذاق كوب الشاي المحلّى.
بماذا كان يحلم إيلان قبل أن يشعر بأنفاسه تختنق والماء يثقل صدره وقدماه تضرب الموج في محاولة يائسة للهرب من الموت وقبل أن تجذف يداه بالفِطرة لعل الموج يحنو عليه فلا يغرقه. عندما سلم إيلان نفسه للموج ولملح البحر، خاطبته الأسماك التي لم تأكل جسده الطاهر، فقالت له ما تحت الثرى خير لك من فوقه، إنّا يا صغيري نخشى عليك من الجحيم المستعر فوق الأرض. لعل طفل الشاطىء اقتنع من قول الأسماك فقرر أن يعود إلى الشاطىء دون حراك في رحلة أخيرة إلى الدنيا التي قذفته صغيراً بعيداً بعيداً عن دياره ووطنه.
إيلان ارتاح من شعارات بني يعرب الكاذبة والتي كانت تؤذي مسامعه الغضة وتؤذينا، وارتاح من ألحانهم النشاز التي يرقصون عليها عراة في كازينوهات السيد الأمريكي والشقيق الإسرائيلي. ارتاح إيلان من الأسنان التي تمضغ اللحم البشري صباح مساء، وعلى شفاهها يسيل اللعاب المشبع بالدماء، ولعل البحر الذي كتم أنفاسه كان أكثر رأفة به من أنياب العرب. العرب كلمة لن يفهمها صغير الشاطىء لأنه لن يكبر بينهم كما كبرنا ولن يعرف أنهم مخنثون كما عرفنا ولن يكتوي بنارهم كما اكتوينا، ولن يعرف الذل والهوان الذي زرعوه في حدائقنا كما عرفنا.
إيلان صاحب حظ عظيم، فيكفيه أنه لن يكبر فيرى القهر العربي ويرى الجباه العربية تتمرغ بالتراب وتداس بالنعال وتقبل النعال التي تدوسها. إيلان لن ينتظر بعد اليوم كسرة خبز من بقايا المتخمين العرب. ولن يقف بعد أن يغادر جامعته في طابور طويل ليحصل على وظيفة لا تغني ولا تسمن من جوع، ولن ينتظر في صفوف المنتظرين أن تأتيهم رحمة من أرض الرمال السوداء كي يتحول إلى زارع في أرض قاحلة لدى بهائم لا تتقن سوى فن الكذب وتتقن فن النخاسة.
إيلان اذهب، فحتى العباءة التي تهتز في المراقص الليلة ومنها يسقط الدولار، لم ترتجف حين لثمت الشاطىء ميتاً. لم ترتجف حين علمت أنك من الأرض التي أثخنوها بالجراح بأكياس الفضة والذهب التي سرقوها من باطن الأرض.
إيلان، يكفيك يا صغيري أنك ستحتضن أمك التي شربت معك الماء وملحه وإخوتك الذين باتوا ككنز مفقود في أسفل البحر. إيلان لقد تركتنا عراة لا نجد حتى ورقة توت نخفي بها عورتنا ووجعنا وكرامتنا المهدورة. يكفيك يا صغيري أنك لن ترى رقص التعري لقادة العرب فوق طاولات المقامرة على الشعوب الفقيرة، ولن ترى عذريتنا وهي تهدر تقرباً للمشتري الجديد في سوق النخاسة.