أمام صور غرق اللاجئين التي تفطر القلب، وصور استقبالهم في أوروبا اشتعلت المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، وانقسمت الآراء كما جرت العادة، وما لفت نظري إجراء المقارنات بين الدول العربية والأوروبية إزاء طريقة تعاملها مع اللاجئين، وسأستعرض أهمها باختصار:
يرى البعض أن كل من الأردن ولبنان وتركيا استقبلت ملايين اللاجئين السوريين، وأحسنت استقبالهم وقدمت لهم ما هو فوق طاقتها، بينما الدول الأوروبية استقبلت بضعة آلاف فقط وحظيت بحفاوة إعلامية كبيرة!! وهنا علينا أن ننتبه لبعض الحقائق البسيطة؛ وهي، أولاً: صحيح أن دول الجوار استقبلت أعداداً غفيرة من اللاجئين، لكنها وضعتهم في مخيمات بائسة، وضمن شروط لا إنسانية، وكانت مشاهد الخيام في فترات المنخفضات الجوية والعواصف الثلجية وموجات الحر تعطي فكرة واضحة عن مدى بؤس وقساوة ظروف الحياة التي يعيشها هؤلاء. وثانياً: لن تقدم هذه الدول لهؤلاء اللاجئين أكثر من خدمات الإيواء والإغاثة، هذا على مستوى الدولة، وهو يختلف من دولة لأخرى، بينما على المستوى الشعبي، فقد تباينت ردود الأفعال، فبينما قدم الأهالي المساعدات التي يستطيعون عليها، وتقاسموا مع اللاجئين كسرة الخبز، ومنهم من فتح لهم بيته؛ إلا أنه ظهرت حالات عديدة انعدمت فيها الرحمة والإنسانية، وحتى لو كانت فردية، إلا أنها كانت مثيرة للتقزز، ولا يمكن القفز عنها؛ مثل استعباد العمال السوريين في لبنان، ومنعهم من التجول في بعض المناطق بعد العاشرة ليلاً، وبعض القوانين العنصرية التي أصدرتها الحكومة. وفي مخيم الزعتري في الأردن سمعنا عن عشرات القصص عن شراء صبايا تحت السن القانوني تحت مسميات زواج، كان معظم "أبطالها" شيوخ من دول الخليج.. إضافة إلى قصص الجوع والحرمان والتشرد والموت من البرد في المدن التركية وغيرها. وبالنسبة للسوريين الذين هم خارج المخيمات، وبصراحة كشفت مأساتهم (ومن قبلهم العراقيين)، إلى أي مدى تتفشى العنصرية في مجتمعاتنا، وبينت حجم التناقض بين الخطاب المثالي المتعاطف مع الشعب السوري والممارسات اللاإنسانية تجاههم على أرض الواقع.
أما الدول الأوروبية، فقد لاحظنا أن التعاطف مع اللاجئين جاء من الأوساط الشعبية التي ضغطت على حكوماتها وأجبرتها على استقبالهم، وقد برهن المواطنون هناك أن الإنسانية لم تمت، حيث خرج عشرات الآلاف للترحيب بهم، وجمعوا لهم التبرعات، وأبدوا استعداداً لتقاسم بيوتهم معهم.. ولكن هذا لا يعني أن جميع الأوروبيين كذلك، فلا شك أن هناك مجموعات عنصرية حاقدة، وهناك من يتوجس خيفة من المهاجرين العرب بشكل خاص.
لكن في المقابل علينا أن ندرك أن أغلب الدول الأوروبية حين تستقبل مهاجرين، فإنها مجبرة بحكم القانون على أن توفر لهم عيشة لائقة تضمن كرامتهم، فهي وإن وضعتهم في مخيمات مؤقتة، وحتى لو طال بهم المقام فإنها في النهاية ستمنحهم حقوق المواطَنة الكاملة، وستعمل على دمجهم في مجتمعاتها (وطبعاً هذا الأمر غير وارد أبداً في جميع الدول العربية)، وعملية الدمج هذه لها تأثيرات اقتصادية واستراتيجية مهمة جداً، خاصة على مستوى طبيعة وهوية المجتمع وثقافته بعد أن يتطعم بأعداد كبيرة من أصول مختلفة... وعلينا أن نتذكر أن هذه المجتمعات دفعت ثمناً باهظاً حتى وصلت إلى المستوى المعيشي الذي هي عليه اليوم، ومع ذلك فإنها تقبل بالمهاجرين، رغم أن هذا سيؤثر على طبيعتها وأنماط حياتها التي ارتضتها لنفسها.
أما الدول العربية فوضعت شروطاً بالغة الصعوبة أمام أي لاجئ سوري قبل أن يطأ أرضها، دول الخليج العربي قاطبة لم تستقبل لاجئاً سورياً واحداً، رغم أنها الممول الرئيسي للجماعات الإرهابية التي تفتك بالشعب السوري، وشيوخها ودعاتها صمتوا تماماً أمام مأساة اللاجئين، أما تركيا وبعض الدول العربية الأخرى فقد آوتهم أولاً في مخيمات أقيمت على عجل، وقبضت باسمهم بعد ذلك الملايين من الدولارت، التي لم تصرفها عليهم، ثم طردتهم إلى أوروبا.
الجانب الآخر المثير والغريب من المسألة يتمثل بتصريحات بعض الدعاة الإسلاميين الذين يشككون في نوايا الدول الأوروبية، ويتهمونها بأنها ضالعة في مؤامرة على الإسلام، وأنها تنوي تنصير الأطفال، أو استغلال خبرات وطاقات المهاجرين، علماً بأن تلك الدول لم تستدعِ أحداً للهجرة إليها، بل أنها تضع شروطاً ومعايير معينة لقبول المهاجرين، وأنها استقبلتهم حتى تضع حداً لعذاباتهم، بعد أن عبروا حدودها.
ومن ناحية ثانية، يرى بعض الإسلاميين المتطرفين أن ما يجري هو هجرة جديدة أو فتح إسلامي، معتبرين أن هذه الهجرات بمثابة انتصار للمسلمين؛ لأن المهاجرين سيتكاثرون وسيطالبون ببناء مساجد، واحترام عاداتهم وطقوسهم الدينية، الأمر الذي سيغير هوية أوروبا بعد زمن قصير. لا شك أن مثل هذه التصريحات تستخف بمعاناة السوريين وعذاباتهم، بل إنها تحرض الدول الأوروبية على وقف استقبالهم، أو تحرض المهاجرين على إثارة المشاكل التي ستؤثر على وجودهم هناك، الأمر الذي يرجح فرضية أن بعض المجموعات المهاجرة إنما فعلت ذلك في سياق تخطيط مسبق أعدته داعش وغيرها، لإثارة القلاقل في أوروبا. وحتى لو لم تكن خطة بالمعنى الدقيق، فقد ظهرت بعض الحالات الشاذة التي تتصرف كالضيف الذي بيده سيف، فتراهم يشكون ويصرخون ويطالبون بحقوق لم ينالوها أصلا في بلدانهم!
الأمر الأخير، علينا أن نتنبه لخطورة تحويل القضية السورية إلى مجرد قضية لاجئين، واختزالها في هذا البُعد، وبالتالي قبل أن نحاكِم دول العالم وشعوبها على استقبال اللاجئين أو رفضهم، علينا أن نسأل: من المسؤول أساساً عن هجرة السوريين؟ (ومن قبلهم العراقيين والفلسطينيين، وربما بعدهم اليمانيين والليبيين)، من الذي خرّب المنطقة العربية، وحولها إلى جحيم لا يطاق؟ ولماذا لا يجد المواطن العربي لا الأمن ولا الكرامة ولا الحرية، ولا حتى الحياة بأبسط صورها في موطنه، بينما يجدها في الدول الغربية (الكافرة)!! ولماذا ينزعج البعض ويرفض الاعتراف بأن الأنظمة الغربية رغم كل مساوئها صارت هي الملاذ الأخير والحضن الدافيء؟! لدي قناعة أنه لو فتحت أوروبا أبواب الهجرة بدون قيود لما تبقى في البلاد العربية والإسلامية أحد.