أسوأ ما في يوم الجمعة أن فيه كثيراً من الوقت الكافي لتسأل في كل مرة سؤالاً لا تعرفُ الإجابة عليه، لتبقى تفكر ومن ثم تفكر. وعادةً ما يتنازعُ في الوقت أمورٌ خفية غيبية، وأخرى واقعية حقيقيةٌ. هنالك تلك الأمور التي حلُّها في عدم حلها، وتلك التي معرفتُها في عدم معرفتها، وأشياء تراها، لترى أخرى من ورائها، وحقيقةُ توصلُك إلى أخرى، كما هي دفقة الدم تدفع دفقة أخرى أمامها فيتولد النبض فيبقى الانسان حيا.
لذلك، كل شيء في هذا الكون، مرتبطٌ ببعضه البعض، وتُعرّف الأشياء بمثيلاتها أو بأضدادها، إلى أن تجدها تعودُ إلى أصلها ومن ثم إلى مُنشئها "المطلق- الأول"، فتكون كل الأشياء في الكون جزءاً من ذلك الكل.
ولأن الإنسان أيضاً هو جزءٌ من ذلك "الكل"، فهو دائمُ البحث عن كُله المتمثل في بقية أجزائه المبعثرة في الفكر والجسد والحب والعداوة والاستبداد والكراهية والطيبة والعدل والإحسان والكفر والإيمان، إلى أن تكتمل جميعها فيه فتكون متعادلة القطبية (Neutral) فتعود به إلى الكل. فلا غرابة إذن أن يوصف الإنسان في كل الأديان المعروفة على أنه "الحاج نحو المطلق" (The pilgrim to the Absolute).
وإلى أن نصل إلى تلك القطبية المتعادلة، يبقى كل منا في حالة من الشوق أو من التشوق، إلى ذلك "المطلق"، الذي يشتمل على حالة الكمال الأخيرة، وحالة اللاوعي متحداً مع الوعي.
وحالةُ "التشوق"، هي أساس حركة الانسان الباحث دوما عن شيء ما لا تمسكُه ولا تصل إليه يداه، متعطش إليه عطشاً لا يُروى، وتتملكه رغبة لا تشبع، ويعتريه قلق لا يهدأ، ويمسك به بحث لا يكتفي.
وهذه الحركة الديناميكية للتشوّق، تجعل الانسان واعياً أكثر فأكثر بذاته، فيكون أكثر فأكثر إنساناً، نافياً التفكير العلمي المحض المجرد، بأن أصله بدأ كـنسناس، فتدرك واعياً أن التفكير العلمي ليس هو إلا جزء سفلي من حالة روحية أعلى.
وكلما كان هذا المتشوق مأخوذا بتشوقه كلما كان أكثر إنسانية وأكثر سيرا في درب التشوق حتى يصل إلى نهايته، وهناك ذلك المجال الفسيح الرحب لتلتقي الإنسانية بإنسانية أخرى حملتها حالة شوق مشابهة فتتشابه الإنسانيتان، فتختفي الهوية، والجنوسية، وعلامات التمايز والتمييز، فيدرك أحدنا معنى وجوده من معنى وجود الآخر المتمثل أمامه والمنعكس فيه.
حينها يعود على فطرته الأولى التي جُبل عليها، إنساناً، بدأ مطلقاً، وعليه في مسار حياته أن يعود إنساناً كما بدأ؛ فهو أكثرُ من نسناس بلا شك.