بقلم: عبد الغني سمارة
في الذكرى السنوية الأولى لقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي (القاضي بإدانة جدار الفصل العنصري)، تنادت أكثر من 170 شخصية فلسطينية، للتوقيع على النداء الوطني لإعلان انطلاقة "الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل، وسحب الإستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها"، والتي ستُعرف عالمياً بحركة Boycott Divestment and Sanctions أو اختصارا، "BDS".
وقد طالب هذا النداء بتطبيق إجراءات عقابية ضد إسرائيل على شكل المقاطعة، وسحب الإستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، حتى تنصاع للقانون الدولي والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وتحديداً، حتى تلتزم بتطبيق ثلاث شروط تمكّن الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وهي: إنهاء احتلالها لكل الأراضي العربية بما في ذلك تفكيك الجدار والمستوطنات، وتحقيق المساواة الكاملة لفلسطينيي ال 48، وعودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم بموجب قرار اﻷمم المتحدة رقم 194.
وفي عام 2008 عقد المؤتمر الوطني الأول للِ BDS، وعلى إثره تشكلت اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل، والتي صارت بمثابة مرجعية وقيادة حركة BDS العالمية.
وبالفعل، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية بدأت نشاطات ال"BDS" تؤتي ثمارها، وتوجع إسرائيل؛ فقد نجحت بعزلها ثقافياً وأكاديمياً وعسكرياً بشكل مترابط، حتى أن نشاطاتها امتدت لتشمل المقاطعة الفنية والرياضية، لتضرب سمعة إسرائيل بين الملايين من عشاق الفن والرياضة، وتهز برجها العاجي الذي طالما سوّقت نفسها من خلاله بأنها دولة "ديمقراطية" تحارب "الإرهاب".
ويوماً بعد يوم، أخذ القلق الإسرائيلي يتصاعد من تزايد حملات المقاطعة الدولية لها، خاصة في مجالات الاقتصاد والثقافة والجامعات والبحث العلمي، وقد عبر العديد من القادة الإسرائيليين عن قلقهم وخشيتهم من الحراك الفعال والمتزايد لحملات ال"BDS"، حتى أن الكنيست بكامل هيئتها، عقدت أكثر من جلسة لمناقشة مكانة إسرائيل في الساحة الدولية على خلفية تزايد النداءات المقاطعة لها في العالم، والمطالبة بعزلتها.
كما حذر باحثون ومفكرون وصناع قرار بأن هذا الحراك يهدد مكانة إسرائيل، ويضع سمعتها على المحك، فمثلاً صرح الرئيس الإسرائيلي "رؤوفين ريفلين" بأن "المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل تشكل تهديداً استراتيجياً من الطراز الأول على النظام الصهيوني برمته"، كما وزعت وزارة الخارجية الإسرائيلية وثيقة سرية على سفراء إسرائيل حول العالم وسُرّبت للإعلام الإسرائيلي، حذرت فيها من خطورة تنامي مقاطعة إسرائيل خلال عام 2015، الأمر الذي من شأنه أن يمس باقتصادها وبمنظومتها الأمنية، وحذرت من تواصل وتفاقم المد السياسي المناهض لإسرائيل.
كما صرّح كل من رئيس وزراء الاحتلال السابق "إيهود باراك"، والرئيس السابق للموساد "شابتاي شافيت"، بأن تنامي حركة "BDS"، يشكل خطراً استراتيجياً على الوجود الإسرائيلي نفسه، خاصة بسبب تنامي دائرة التأييد العالمي لها.
وقد أشارت بعض استطلاعات الرأي العام العالمي السنوية التي تجريها ( (BBC Globe scanإلى أنه في السنوات القليلة الماضية باتت إسرائيل تنافس كوريا الشمالية على موقع ثالث أو رابع أسوأ الدول تأثيراً في العالم، وهذا ما ينعكس بالضرورة على التجارة والعلاقات الإسرائيلية مع العالم.
ومؤخراً، تم إلحاق ملف ال BDSلوزارة الشؤون الإستراتيجية، بموازاة ملفي: "إيران النووي"، وملف "العلاقات الإسرائيلية/ الأمريكية"، في إشارة واضحة على مدى الخطورة التي باتت تستشعر بها إسرائيل من تحركات ال BDS.
وبدأت السفارات الإسرائيلية بعقد مؤتمرات عالمية في محاولة منها لمواجهة حملات المقاطعة، والتخفيف من أضرارها، كما قامت بمحاولات عديدة لاستقطاب أهم خمسة آلاف شخصية مؤثرة في العالم، لتجنيدهم في حملات مضادة لحملات الBDS.
ولكن حراك ال"BDS" لم يأتي من فراغ، بل كان تواصلا طبيعيا لحملات المقاطعة التي تشكلت منذ بدايات الاحتلال، والتي كانت متنوعة، وتأخذ الطابع الشعبي؛ إلا أنها بعد الإعتداءات الأخيرة على غزة أخذت دفعة قوية، حيث كانت الجماهير الفلسطينية – كما هي عادتها – متقدمة بمبادراتها الخلاقة على المؤسسات، التي التحقت بهذا الجهد الوطني وأعادت ترتيب أوراقها.
وتأتي أهمية هذه الحركة في هذا الوقت بالذات، الذي يشهد انسدادا للأفق السياسي وفشلا مدويا للحلول المطروحة، ومع ابتلاع المزيد من الأرض؛ حيث جاءت حملات ال BDS لتعطينا شحنات من الأمل نحن بأمس الحاجة لها، سيّما
وأنها حملات مدروسة ومخطط لها بشكل جيد، فهي مبنية على عمل وجهود تراكمية، وبالتالي يمكن لهذا الجهد أن ينجح في إيجاد نقطة ضعف مميتة لدى هذا الكيان المحتل من خلال محاربته اقتصاديا وعزله أكاديمياً وثقافياً؛ الأمر الذي يتيح لنا أن نتوج عقودا من النضال الفلسطيني (بما فيه المقاطعة) بحركة عالمية تكشف الوجه الحقيقي للكيان الإسرائيلي.
ومن ناحية ثانية، فإن هذا الحراك الشعبي / الدولي قد ينجح بإعادة الاعتبار للدور التاريخي المهم والحاسم الذي أداه المجتمع الدولي لنصرة شعب جنوب أفريقيا في نضاله ضد نظام الأبارتهايد من خلال أشكال مختلفة من المقاطعة، والذي أسفر في نهاية المطاف عن تصفية هذا النظام العنصري؛ ما يعني أن على الفلسطينيين أن يكثفوا جهودهم في إقناع الرأي العام الدولي بأن إسرائيل هي في الحقيقة دولة "أبارتهايد"، وأن على المجتمع الدولي أن يقوم بدوره وواجبه الأخلاقي والسياسي ضد هذه الدولة العنصرية.
وبالطبع، فإن حراك ال BDSوتفعيل كافة أشكال المقاطعة لإسرائيل (ورغم أهميتها وفاعليتها) إلا أنها ليست البديل عن ممارسة كافة أشكال الكفاح الوطني الأخرى، لكنها إضافة نوعية مهمة للكفاح الفلسطيني عبر تاريخه الطويل.