في ذكرى توقيع اتفاق الإطار الفلسطيني الإسرائيلي والذي صيغ في العاصمة النرويجية ووقع في العاصمة الأمريكية، تترامى الذكريات والعبر على جوانب طريق طويل امتد لأكثر من اثنين وعشرين عاماً. خلال هذه الأعوام التي يصفها البعض بالعجاف، عرف الفلسطينيون معنى الباب الدوار ومعنى الشقاق والخلاف الداخلي ومعنى سقوط الأحلام وسيطرة الكوابيس، ومعنى تقسيم المقسم وتفتيت المفتت. في الأعوام التي تلت أوسلو عرف الفلسطينيون معنى الكنتونات والفصل العنصري، ومعنى أن تسجن في كيلو متر مربع، ولأجل مغادرته تحتاج إلى معجزة كبرى، وعرفوا في هذه الأعوام معنى التوهان في دهاليز السياسة ومعنى أن يكون حفار البئر بلا ماء وضارب الدف بلا اصابع.
انتهى أوسلو في العام ١٩٩٩ أو هكذا كان من المفترض، لكن كلمة قالها إسحق شامير حين جاء إلى مدريد وإلى جانبه الابن المدلل يومها بنيامين نتنياهو، كانت هي الأصدق ((سنتفاوض معهم مئة عام))، مر من قرن شامير ربع قرن، وباقي على النبوؤة أو المخطط خمسة وسبعون عاماً. خمسة وعشرون عاماً حكم إسرائيل فيها ستة من رؤساء الحكومة، بعضهم تباعده الأفكار عن شامير وبعضهم يعتبره الأب الروحي، لكن هؤلاء اجتمعوا على فكرة الرجل، أن التفاوض مع الفلسطينيين تفاوض مفتوح، لا أبقار مقدسه ولا مواعيد ثابته ولا مكان للحديث عن أرض مقابل السلام، ولا عن دولة نهائية.
هؤلاء يتفقون ضمناً وصراحة على أن الحكم الذاتي للفلسطينيين في مكان سكناهم هو أقصى ما يمكن أن يقدم، وأن بيت القصيد في قتل القصيد ونسف الكلمات وتفجير الأبيات الداعية للدولة المتكاملة. لا أحد في إسرائيل اليوم يجاهر بفكرة السلام مع الفلسطينيين، تشرذم اليسار الإسرائيلي وبات المجتمع الإسرائيلي مقسماً بين اليمين ويمين اليمين ووسط اليمين ويسار اليمين، حتى الوسط ويمين الوسط ويسار الوسط ذاب مع اليساريين وبات نتنياهو ليس بحاجة إلى شراذم اليسار كي يشكل حكومته. تشكيل الحكومة بالنسبة للرجل لا يحتاج إلى أكثر من أن يغني ((هاتيكفاه)) الأمل فوق تلال رام الله أو نابلس أو الخليل، حتى يتجمع أمامه أصحاب نظريات الخليل أهم من أورشليم ويساندوه في الغناء والترنيم. واذا تألم أحد من الحلفاء خارج إسرائيل من صوت هاتيكفاه يغني لهم نتنياهو بصوت آخر لا يسمعه الحلفاء في الكنيست والحكومة، لكن الكارثة فيمن ما زال يغني في فلسطين نشيد أوسلو، ويطرب لألحان باريس.
لم يكن أمامنا سوى أوسلو فكان أفضل الممكن. هذه الكلمات يكررها أصحاب البدلات الرسمية والسيارات الحكومية في السلطة الفلسطينية، وأنا سأردد معهم، فأوسلو كان أفضل الممكن، لكن أفضل الممكن انتهى يوم انتهك الاتفاق وسقطت الضفة الغربية في مساء ذاك اليوم الشتوي، فكان بالإمكان يومها أن ندفن أوسلو بعيداً عن الشهداء الذين دفنوا في مقبرة جماعية بالقرب من مشفى رام الله الحكومي. لماذا لم نعلن أن أوسلو داسته الدبابات الإسرائيلية وهي تحاصر مقر المقاطعة الذي كان رمزاً للدولة الفلسطينية التي ستأتي بعد أوسلو بسنوات خمس وتاهت في التواء الأحرف وفي زقاق الكلمات، وبينما يغني البعض لأوسلو والتفاوض.
تسير مركبة نتنياهو وتغرس في كل زاوية مستوطنة لتفصل انحاء الضفة بعضها عن بعض في سباق محموم مع الزمن الذي سيعيده يوماً ما إلى طاولة التفاوض، لأنه يدرك بحس عقوله السياسية ومراكز أبحاثه أن المجتمع الدولي، وحتى الحليف الأمريكي، لن يقبل بأن يظل الواقع الفلسطيني دون تحريك، فلا بد من إلقاء حجر في المياه الراكدة، وعليه هو أن يتلقى الحجر وأن يجعل الاهتزاز في هذه المياه اهتزازاً بدوائر ثابتة لا تغير من مشروعه المستمر على الأرض.
من قال إن نتنياهو لا يريد أوسلو؟ على العكس هو يريده بتفصيلاته الجديدة، فما يصفه اتفاق أوسلو على الأرض لم يعد موجوداً، وبات في حكم الماضي، فالحدود التي تحدث عنها الاتفاق مسحت تماماً بالجدار، والأرض التي يصنفها أوسلو بين ألف وباء وجيم، اقتطعتها المستوطنات، فلم تبق منها ولم تذر، والقدس التي لم يأت أوسلو على ذكرها أصبحت محاطة بأرخبيل من المستوطنات التي تخنقها.
من قال إن نتنيايهو لا يريد أوسلو؟ لكن أوسلو لم يعد موجوداً أصلاً، وإن كان الفلسطينيون يريدونه فليعدلوا ما لم يعد موجوداً وليتحدثوا عن اتفاق أوسلو بالنسخة الجديدة، أما النسخة القديمة للاتفاق، فقد أحرقت وقرئت عليها كل الأسفار. أوسلو بنسخته المعدلة إن ظل من يتذكر بنوده السابقة سيقف أصحاب مبدأ التفاوض على شباكه ويذرفون الدمع على ما كان، وقد يغنون للسيدة أم كلثوم ((قل للزمان ارجع يا زمان)) لكن الزمان لا يعود، وما صار واقعاً صار واقعاً، فهل ستعدلون فيما كان وتراهنون على المقبل بلا أقدام؟