في الحقيقةِ، فإنَّ ما اصطلِحَ على تسميته بالحربين العالميتين الكبريين لم تكن سوى حروباَ أوروبيَّة أطلق عليها مجازاَ وزوراً وبهتاناً حروباً عالميَّة، إنَّها حروبٌ أوروبيَّة بامتياز، وذلك من حيث الدَّوافع والأسباب والأهداف، ولإنْ كانت شعوب القارَّة الأوروبيَّة قد دفعت أثماناً لها في الماضي، فإنَّ سائر شعوب العالم، وخصوصاً شعوب منطقة الشرق الأوسط، ما زالت تدفَعُ أثماناً باهظة لها.فيما يخص شعوب منطقة الشرق الأوسط؛ فقد دفعت أثماناً مُريعة استراتيجيَّة لتلك الحروب على مستوى ماضيها القريب وصلَةِ ذلك بتشكُّل حاضرها الرَّاهن، وكذلك على مستوى مستقبلها ومستقبل تطوُّرها؛ حيث ما زالت تعيش في ظلال البيئة الاستراتيجيَّة الخطيرة والمُتَقَلِّبة والقَلِقة التي أفرزتها نتائج تلك الحروب.
لكن وفي ذات الوقت، وللمفارقة، فقد شكَّلت مجريات ووقائع ونتائج تلك الحروب الدَّامية الطَّويلة في أوروبا، إضافة إلى الحربِ الأهليَّة الأمريكيَّة بين الشَّمال والجنوب، قاعِدَةً للرُّشد على مستوى الفكر الاستراتيجي وعلى مستوى صياغة وصيانة منظومة العلاقات الإقليميَّة والبينيَّة والدَّوليَّة داخل القارَّة الأوروبيَّة وفي أمريكا الشَّماليَّة؛ ما أدَّى إلى إرساء بيئة السَّلام والاستقرار في قارَّة أوروبا وفي شمال القارَّة الأمريكيَّة.كانت الحربان العالميتان، إذَنْ، خلاصة مخاض الحروب الدِّينيَّة ومن ثمَّ القوميَّة، وخلاصة الصِّراع الجيوسياسي والاستراتيجي، داخل القارَّة ذاتها، ومن ثمَّ امتداداً إلى قارَّات العالم البعيدة، ذلك الصِّراع الَّذي كانت قد عاشته القارَّة الأوروبيَّة منذ مطلع القرن السَّابع عشر الميلادي على الأقل، وقد واكبَ كلَّ ذلك تطور النَّظريات الاستعماريَّة وتغوُّل الفكر الرَّأسمالي، وبالتَّالي توحُّش القوى الاستعماريَّة، الَّتي كانت تبحث عن الخامات الصِّناعيَّة وعن سدِّ حاجات مجتمعاتها الاستهلاكيَّة وعن ضرورات تطوُّر مجتمعاتها تكنولوجيَّاً وصناعيَّاً واجتماعيَّاً وقوميَّاً خارج حدود القارَّة الأوروبيَّة.
قد يُقال: إنَّ هذه معلومات وحقائق بديهيَّة، ووقائع تاريخيَّة لا يختلف حولها النَّاس، وهذا بالتأكيد صحيح. ولكن، هل صحيح أنَّه قد تَمَّ أخذها بالاعتبار وبما يكفي من جدِّيَّة وبما ينبغي من مسؤوليَّة لدى نُخب وقيادات وحكومات ودول وعموم شعوب وجماهير وأطياف مجتمعات هذا الشَّرق، وذلك لدى صياغة نظريات الفكر السِّياسي القومي أو الوطني أو حتَّى لدى الحركات الَّتي تتبنَّى الفكر الدِّيني على اختلافها؟صحيحٌ أنَّه قد تمَّ تناول ذلك في أدبيات تلك النُّخب والحركات والأحزاب وحتَّى الدُّول والحكومات القوميَّة والوطنيَّة، ولكن بما لا يتجاوز الإطار النظري والتَّنظيري، أو في إطار ما يخدم البنية النظرية والحزبية أو الفئويَّة لدى تلك الأطياف السِّياسيَّة أو الدِّينيَّة؛ إذْ أنَّ مؤدَّى السُّلوك العملي يُناقض ذلك الفهم تماماً.
بمعنى أنَّ ذلك الفهم لم يُجاوز حدودَ منطقة ووسائل التَّوظيف لخدمة الأجِنْدات الفئويَّة، وبما يصل إلى إرساءِ قاعدةِ التأصيل والتَّجذير على مستوى عمق الفهم النَّظري وعلى مستوى السُّلوك العملي.وإلَّا، فعلى أيِّ قاعدَةٍ يتم التركيز على أنَّ سلوك الغرب كان يستهدفُ ديناً بعينه دون غيره، أو مذهباً دون آخر أو طائفة أو فئة دون أخرى من ساكني هذا الشَّرق المغلوب على أمره؟بتقديري، إنَّ القوى الغربيَّة الرَّأسماليَّة والصِّناعيَّة والاستعماريَّة، ومنذ نشأتها، لم تكُ في الحقيقة في وارد كلَّ ذلك. لم تكُ بوارد محاربة الأديان أو دينٍ بعينه بمقدار ما كانت بوارد توظيف التَّعصُّب الدِّيني لخدمة أغراضها، ولم تكُ بوارِدِ الطَّوائف والمذاهب بمقدارِ توظيف التنُّوع الَّذي يزخر به الشَّرق لتعميق الانقسامات المذهبيَّة، ولتعميق فعل وأثر عوامل ومفاعيل التَّاريخ في إدامة مناخ وبيئة التَّخلُّف.
بالإجمال، فإنَّ كل المجريات التَّاريخيَّة والوقائع السياسيَّة والأزمات والحروب والنِّزاعات التي عصفت ولمَّا تَزَل بالشَّرقِ عموماً وبالمشرق والمغرب العربي تحديداً ومنذ انتهاء الحرب العالميَّة الثانيَّة على الأقل، وليس آخرها وقائع ومجريات ما اصطلح على تسميته بربيع العرب وأجلى تجلِّياته ما يحصل في سوريا والعراق، وحتَّى مستقبلٍ غير منظور حتَّى الآن، تؤكِّدُ على حقيقةٍ واحدة.
هي:أنَّ سنّ الرُّشد وعهد السَّلام الطَّويل وتنامي المناخ الاستهلاكي وتطوُّر حركة المجتمعات الصِّناعيَّة، الَّذي بلغته القوى الدَّوليَّة والمجتمعات المدنيَّة في أوروبا وأمريكا كنتيجةٍ لتجربتها التَّاريخيَّة عبر الحروب الدَّامية في بيئة التنافس الاستراتيجي بينها فيما مضى؛ كان على الشَّرقِ أنْ يدفع أثمانه من ماضيه ومن راهنه ومن مستقبله. ضمن إدامة أسباب وعوامل بيئة القلق والاضطراب والنِّزاع السياسي والاجتماعي، كإحدى مظاهر استمرار مناخ التنافس الاستراتيجي والجيوسياسي بين تلك القوى الغربية على أراضٍ بعيدة وعلى جلدِ شعوب الشَّرق، فيما هي تنعمُ بعهدِ السَّلام الطَّويل، الَّذي هو من حقِّ مجتمعاتها كما هو من حقِّ مجتمعات الشَّرق!! فمتى سيبلُغُ هذا الشَّرقُ سنَّ الرُّشد، ويُغادرُ منطق التفكير بطريقةٍ مُراهقةٍ انفعاليَّة ويُغادِرُ منطق الارتجال، ويكُفُّ عن توفيرِ مناخاتٍ مريحة لعملِ وإمضاءِ مخططات تلك القوى الَّتي ليس في وارِدها سوى نهبِ هذا الشَّرق ليسَ إلَّا؟!