سكون
كان عمرى أثني عشر عاماً.. أطالع مجلة لا أذكر اسمها عندما سمعت أمي تهتف غير مصدقة… برجي التجارة العالمية في نيويورك يحترقان.. أذكر تواتر الأنباء بجنون على شريط الأخبار أسفل الشاشة وارتعاش صوت مقدم الأخبار الأمريكي انفعالاً… القنوات العربية نقلت مشاعر مختلفة، ارتباك وعدم فهم خالطهما فرح وتشفٍّ، فها هي أمريكا التي تدعم الإرهاب في فلسطين تكتوي بناره في عقر دارها، القبول الذي لاقته فكرة انتصار العرب على أقوى دولة في العالم بتلك العملية بددته صحوة ضمائرهم فيما بعد على تساؤلات أخلاقية وإنسانية.
الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١ كان يوماً لا ينسى سواء بالنسبة للعرب أو للأمريكيين، وتاريخاً فاصلاً يختلف ما قبله عما بعده بشكل دراماتيكي، السبب لم يكن فقط المشاهد الهوليودية لاصطدام الطائرات الأربع ببرجي التجارة ومبنى وزارة الدفاع، أو مفاجأة انكسار الأسطورة الأمريكية التي لا تقهر، ولا لأنه في هذا اليوم قتل أكثر من ألفين وسبعمائة شخص في أكبر عملية إرهابية تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها الحديث، بل لأن هذا الحدث كانت له تبعات أثرت وما زالت تؤثر في منطقة الشرق الأوسط، وترسم لها ملامح سياسية واجتماعية مختلفة، من بين هذه التبعات المباشرة، الاحتلال الأمريكي للعراق بدعوى امتلاكه أسلحة نووية لم يظهر لها أثر أبداً حتى هذه اللحظة، والحرب الدولية على طالبان في أفغانستان التي ربما تكون أسقطت حكم الحركة، لكنها فشلت في محو إرثها ودحر ثقافتها أو حتى إزالة أسباب التعاطف الشعبي معها، ولا ننسى الطائرات من دون طيار التي استباحت شبه الجزيرة العربية تضرب هنا وهناك، ولا أحد يسأل عما تخلفه من ضحايا مدنيين.
ورغم أن الأطماع الأمريكية بقيت على حالها، والمنهج ظل براجماتيا بامتياز، فليس هناك من شك أن السياسة الخارجية الأمريكية تغيرت بعد الحادي عشر من سبتمبر تغيراً جذرياً وأن هذا التحول ظهر في أوضح أشكاله بعد ثورات الربيع العربي، فبدلاً من المراهنة على حلفاء واشنطن الجالسين على العروش العربية، تحولت أنظار صانع القرار الأمريكي إلى المعارضة الداخلية المتنامية ضد هولاء الزعماء طبقاً للتقارير الاستخبارية، أملاً في أن تشكل تلك الجماعات صمام أمان ضد التطرف والأصولية وضمانا لشعبيتها في دول العالم الثالث، لكن ما حدث هو العكس تماماً، وانقلب السحر على الساحر بظهور داعش في سوريا والعراق وتحول منطقة الشرق الأوسط إلى بؤرة مفتوحة للصراع.
بعد مرور أربعة عشر عاماً على الهجمات التي هزت الولايات المتحدة الأمريكية، اختفى أسامة بن لادن من الخريطة صحيح، لكن ظهر بدلاً منه أبو بكر البغدادي وفيديوهات قطع الرؤوس المصورة على الطريقة الأمريكية، وصارت الأعلام السوداء كابوساً يلاحقنا جميعاً. بات الإرهاب عابراً للحدود لا مبالياً بالمسافات، ويكفي أن ننظر إلى الولايات المتحدة لنعرف أنها مهددة الآن أكثر من أي وقت مضى، وأن الشئ الوحيد الذي نجحت أمريكا على مدار السنوات الماضية في تحقيقه وبجدارة، هو أن تصبح مكروهة أكثر فأكثر.