منذ نشأة الخلق والانسان يعيش ضمن الجماعة، ومن ثم في مجموعات ومن ثم في عشائر وفي قبائل، إلى أن تطورت تلك الجماعات فصارت شعوباً وأمما. ورغم كل التقدم العلمي، والتطور التكنولوجي، والتسارع الاقتصادي، ومحاولات العولمة، إلا أن جهود جعل العالم "قرية واحدة" قد باءت بالفشل، لأن نزعة الانتماء إلى الجماعة هي نزعة غريزية بدأت مع خلق الإنسان حين بدأ آدم يفتش عن حواء لتحقيق غاية وجودية.
لذلك، تبقى غريزة الانتماء إلى المجموعة أقوى من أي مبادرة لتفكيكها، لأن دوائر الانتماء فيها تكبر لتصبح عائلية فعشائرية فمناطقية فجغرافية...إلخ، وكلما اختلف وتدرج نطاق التهديد الذي يلحق بالفرد، والذي هو السبب الأساسي، وراء سعي الانسان للبقاء ضمن الجماعة، كلما تحرك الفرد قدما أو تراجع في تلك النطاقات، بحسب الحاجة، وبحسب طبيعة الخطر المحدق به.
وهذا السلوك ينطبق على أفراد نفس المجموعة، فيظهرون بمظهر الوحدة الواحدة، أو بمظهر القطيع، كما أشار عالم الأحياء هاميلتون، حيث يقوم الفرد بالتصرف بسلوك الجماعة التي ينتمي لها دون تفكير أو تخطيط، فخلال الجماعة الواحدة يميل الأشخاص الأضعف والأقل مركزاً إلى التصرف بسلوك من هم أعلى مركزاً، وأعلى قيادة.
وما نشهده اليوم على الساحة الفلسطينية من انقسام، وكذلك على الساحة العربية، من تفتت وانهيار، هو تطبيق عملي لنظرية القطيع، فالكل مرتهن لسلوك وإرادة رأس القطيع، بل ان مصير ونهاية القطيع نفسه قد إرتهنت لقيادة القطيع، وسيق بها إلى وجهة غير معلومة فلم تدري الى اين هي ذاهبة، وهل هي إن ذهبت ستعود أم أنها لن تعود؟
وأبلغ حادثة في التاريخ العربي على سلوك القطيع ما دار بين الأحنف بن قيس التميمي وبين معاوية بن ابي سفيان الذي تنازل له الحسن بن علي عن الخلافة إثر حرب دارت بين الرجلين، وكان الأحنف من أنصار الحسن بن علي وذات مرة، عدد معاوية بن أبي سفيان على الأحنف ذنوبا. فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين، لا ترد الأمور على أعقابها. أما والله! إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا والسيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا! فلما خرج الأحنف من عند معاوية، سألت أخت معاوية: من هذا الذي يتهدد؟ قال: هذا الذي إن غضب؛ غضب لغضبه مائة ألف من تميم، يخرجون معه للقتال لا يدرون فيما غضب وفيما خرجوا.
والجملة الأخيرة التي قالها معاوية تمثل سلوك القطيع في النفس البشرية وقد أدرك معاوية بدهائه أن الأحنف قائد للقطيع وأن وراءه مائة ألف رجل لا يدرون لماذا خرجوا!