محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
يجلسُ الفرد المعاصر أمام جهاز الكمبيوتر، يضع قربه قهوة أو سيجارة أو عصير ليمون أو عصير عشبة طيبة أو كأسَ نبيذ بحسب رغبته وميولاته الفكرية. ثم يضع رقمه السرّيّ وبريده الإلكتروني الخاص على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ويدخل منها إلى العالم. يشاهدُ مستجدَّاته وهو يعود إلى مشروبه بين الفينة والأخرى، يتفاعلُ مع بعضها بالإعجاب، ومع غيرها بالتعليق. وحين يتألَّم افتراضيا يتبنى القضية على صفحته مدعِّمًا شعوره بالصور اللازمة والشعارات، ويدافع عن موقفه بما يناسب من ردود وحجج وصورٍ وأيقونات تعبِّر عن مختلف أنواع العواطف، وقد يضطرُّ لاستئصال الفاعلين المندسين بين الأصدقاء بواسطة البلوك. وحين ينتهي من نضاله المرير، وحين ينتهي من مشروبه، يخرج من موقع التواصل، يقوم بإطفاء الجهاز، يأخذ دوشًا رائقا، ويتجه إلى فراشه لينام قرير العين. وفي اليوم الموالي يقوم بالأمر نفسه بتبني قضايا أخرى وخوض صراعاتٍ دون كيشوتية حادة. ورغم التوتّر داخل العالم الافتراضي فإنه يظلُّ محافظا على نمط حياته، على مشروبه، ومواعيده المختلفة المهمّة والعادية، فالقضية في النهاية افتراضية.
ما يحدث في الواقع ينتقل بسرعةٍ إلى العالم الافتراضي، لكنه ينتقل مع مسافة ضرورية تفرّق بين الواقعي والافتراضي. كل هذا يجعل الأحداث، رغم التراجيديا التي تحيطها بها المنشورات، تصل ربما أخفَّ من وطأتها الواقعية. فلقد عشنا جميعا الأحداث العربية بهذه الطريقة تقريبا، تألمنا للثلوج التي مرت على الشعب السوري المشرّد، والصواريخ التي نزلتْ على رؤوس الفلسطينيين، نددنا بجرائم داعش، وغضبنا بسبب"عاصفة الحزم"، وغضب بعضنا لها، وشتمنا الجامعة العربية والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان. لكننا جميعا كنَّا نرى هذا من خلال شاشات الحاسوب، ونحن متمددين في أفرشة وثيرة ومحاطين بملائكة الدفء والأمان، ولم يغيِّرْ هذا في حياتنا أيّ شيءٍ، لأننا قمنا بأفعال افتراضية فقط، ولا لوم على أحد لأنّ هول الحدث أكبر من الأفعال الواقعية على ما يبدو.
من الذين يناضلونا افتراضيا؟ بالطبع نحن المحظوظون بالجلوس إلى مكاتبنا، الهادئون في مساكننا، المحاطون بأهلنا وأولادنا كاملين غير ناقصين(ولا شعرة، ولا إصبع). لكنَّ أولئك العالقين في عمق الأحداث واقعا لا وقت لهم لعالمنا الافتراضي. لا يجد الجائع وقتا سوى للبحث عن لقمةٍ تسكت صراخ أمعائه، لا يجد البردان وقتا سوى للاحتماء أو الانحشار في أية زاوية أقلّ بردا، لا تجد الأمهات الجريحات غير أنهار العويل والبكاء، لا تجد الجثث المحروقة المرمية في الشارع غير الإهمال وأنياب الكلاب الجائعة(وأنياب البشر الجائعين إلى دماء بشر طيبين). هؤلاء جميعا لا يجدون الوقت للدخول إلى الفايس بوك، لأنهم جميعا لا يجدون الوقت إلا لمحاولة إنقاذ ما تبقَّى فيهم من حياة، لا يجدون الوقت إلا لدراسة تحركات القذيقة واحتمالات النجاة بأقلّ خسائر ممكنة(الخروج بلا يدين مثلا)، لا يجدون الوقت إلا للهرب بعيدا عن الموت.
هل هذه المواقع الافتراضية تقوم بالتخفيف من حدّة الواقع المرير؟ أم أننا في الحقيقة تماما كجمهور المسرح نشاهد مصائر الأبطال لنتأثَّر ولكي يحصل بعد ذلك التطهير؟ إذا كان الحالُ هو الأول فهنيئا لنا هذه العواطف المعلّبة الباردة، وإذا كان الثاني فنحن نشفق على مصائر أبطال مسرح الحياة الدامي ونشكر السماء على سلامة مصائرنا مما وقعوا فيه. وإذا كان الحال هو الاثنان معا، فهذه كارثة أخرى.
سيقول بعض القرّاء أننا على الأقل نرفض ما يحدث وهذا أضعف الإيمان، طبعا نحن نرفضه، لكنّ أكثرنا يندد وينام مرتاح البال، أكثرنا ينشر صور الجرحى والمذبوحين، وفي أحلامه يرى البهجة والفرحة. أكثرنا يحزن افتراضيا، يتألّم افتراضيا؛ وهذا ليس أضعف الإيمان، هذا موضوع جديد في علم النفس ندعو مشايخنا النفسانيين لدراسته من خلالنا.