اتركوا الطواف حول الكعبة، وطوفوا حول الفقراء، عند الفقراء ستجدون الله.. جملة صادمة كتبت على صورة طفلة مشردة تنام جلوساً على قارعة الطريق، ولربما على قارعة الضمير، أو ما كان يسمى بالضمير الإنساني.. الجملة الصادمة أعلاه هي ذاتها ما عجّل في كتابة هذا المقال لذات الفكرة التي كانت تختمر على نار هادئة.. فكرة الطواف حول الكعبة أو لنقل، فكرة السؤال الإشكالي، أين روح الإله؟
نعم هو سؤال إشكالي ربما لأن الحالة "حالتنا العربية"، حالة استثنائية تركيبية لا قواعد ولا قوانين بعينها تستند عليها، ربما لكوننا نبحث في الأصل عن وجوهنا أحياناً في المرآة، وأحياناً أخرى على الرصيف. وكأننا نحاول نفض أيدينا عن ارتكاب أول جريمة بشرية وقعت على الأرض، جريمة استباحة دم الأخ لأخيه، فيما هي كانت، وما زالت، علامة الخالق الدالة على هشاشة إيمان المخلوق.
لنعد إلى موضوع المقال هنا، قبل أيام معدودة كنت قد شاهدت على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" صورة لمسجد تم بناؤه على شكل كعبة في نيجيريا لأداء فريضة الحج كبديل عن الذهاب إلى الحرم المكي. وأظهرت الصورة المسلمين النيجيريين وهم يطوفون حول هذا المجسم مرتدين ملابس الإحرام، رافعين أيديهم للسماء، وكأنهم يدعون. وفي شكل مشابه كانت صورة أخرى تتحدث عن مجسم بناه الحوثيون في اليمن، وقبل هذه وتلك كانت صورة ثالثة خرجت من تونس في العام الماضي لتحدث جدلاً واسعاً حول شرعية الأمر من عدمها.
في جهة أخرى من هذا العالم الافتراضي بقيمه وسلوكه، كان قد حدث قبل عامين تقريباً، أن تم تكفير الشاعرة الكويتيــــــة ميسون السويدان لكتابتها تغريدة تقول: "تهت في شوارع مكة أبحث عن الله.. ولم أجده في الحرم.." فكان ملخص رد سويدان المفصل بعد صمت لم يدم طويلاً: "هذا الدين الذي تدافعون عنه ليس بديني، هذا صحيح. أنا ديني الإسلام والرحمة وأنتم دينكم التكفير والنَّقمة" مضيفة: "لم أذهب إلى مكة ليبكي قلبي ما فعلتموه بهذه المدينة الطاهرة.. بالمسجد الحرام، ذهبت إليها بحثاً عن الله.. فلم أجدْه عندكم.. نعم، ما وجدته إلا بقلبي".. وذهبت السويدان تشرح بشكل مفصل لماذا، إلى أن ختمت ردها شعراً:
أحدٌ أحدْ..
ربُّ المكَفِّرِ شيخُهُ…
رب المكفِّرِ سيفُهُ…
وأنا إلهي ليس يسكن في جمادٍ أو جسدْ…
أَحدٌ أحَدْ … أحَدٌ أحَدْ…
إن تضعوا حجر التكفير على صدري
فلا أقول إلا: أحدٌ أحدْ..
أنا ما وجدتُك في بلدْ، أنا ما وجدتك في جسدْ،
أنا ما وجدتك في سوى قلبٍ لغيرك ما سجدْ
أَحدٌ أحَدْ… أحَدٌ أحَدْ…
ربُّ المُكفِّرِ قاتلٌ…
ربُّ المكفِّر مُستَبِدْ…
وأنا إلهي في فؤادي…
ليس يقتلُهُ أحَدْ…
ردُ السويدان أعلاه ذكرني بإحدى قواعد العشق الأربعين لـ "شمس التبريزي" وهو يقول: "إن الطريقة التي نرى الله فيها، ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا".
برأيكم كيف نرى الله؟ إن لم تكن الإجابة حاضرة، يمكننا الهروب باتجاه سؤال، كيف نرى أنفسنا؟ هنا اسمحوا لي أن أستعرض معكم ما قرأته لآخر وهو يقول: "يُروى أن أبا يزيد البسطامي، أراد السفر إلى الكعبة، لأداء الحج. فلما وصل البصرة، سأله درويش: ماذا تريد يا أبا يزيد؟ قال: أريد مكة، لزيارة بيت الله. قال الدرويش: هل معك زاد لهذا السفر. قال: نعم، 200 درهم. قال الدرويش: قلبي هو بيت الله، أعطني الدراهم وتعال طف حولي سبعة أشواط. أعطاه البسطامي الدراهم.. فقال الدرويش: يا أبا يزيد.. الكعبةُ، بيتُ الله، بناه وتركه، وبناني وسكن فيَّ".
المقاربة هنا لا تجيز إنشاء كعبة بديلة هنا أو هناك، وبذات القدر لا تصرف هذيان المرء أو شططه، كما أنها مقاربة لا تنشئ محاكم للأفكار، ولا لتلك الممالك التي تتغنى بالرصاص والنار، وكذلك لا تبحث عن ثأرٍ لدم يسوع المسيح، وإنما تكتفي في سياق ما نعيشه اليوم من استباحة للدم والعرض والضمير، باقتفاء أثر السؤال الأساس، إذ تقول بشكل واضح وصريح: حينما ندرك معنى الطواف حول أنفسنا، فنراها كما يرى المرء وجهه في المرآة، حينها فقط سنعلم كيف نرى الله، وإن رأينا الله، وقتها فقط سنبصر أين تكمن روح الإله.