خاص بـ "الحدث"
تشهد الساحة الفلسطينية حالة تراجع كبير في دور الحركة الوطنية لصالح الاعتبارات الفصائلية الفئوية الضيقة، التي انتهت إلى درجة من التقاطب السياسي، وصلت إلى حد الاقتتال والانقسام، لذلك نجد أن العمل التنظيمي الحزبي فقد بريقه لدى عموم الشعب، وتصاعدت معطيات فقدان الثقة وخيبة الأمل من هذه التنظيمات. وبالمقابل عندما كان العمل الحزبي السياسي الفلسطيني يتم عبر حركة وطنية تؤمن بالتعددية والتسامح، ووحدة الهدف المتمثل بالنضال الوطني لإنهاء الاحتلال والتحرر، كانت تلك التنظيمات والأحزاب تتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة والتفاف شعبي كبير جعل منها قوى مؤثرة، وفاعلة.
ولكن الأوضاع السياسية والصراعات والانقسامات والاقتتال الداخلي الذي عصف بالساحة الفلسطينية جعل عامة الشعب وبخاصة الشباب يشعرون بخيبة الأمل وعدم الإيمان وانعدم الثقة بالفصائل الفلسطينية، إذ تظهر مؤشرات الشباب الفلسطيني والتنظيمات، أن ما يقارب 70% منهم عرفوا أنفسهم بأنهم غير ناشطين سياسياً وحزبياً.
وتبين حالة التراجع هذه التي ألمت بمشاركة الشباب في التنظيمات السياسية الفلسطينية، والارتفاع الكبير في معدلات الذين لا يثقون بأي من التنظيمات والأحزاب السياسية، جعل رياح التحرر والتغيير بعيدة المنال وأصاب قوى الشعب بالإحباط من البحث عن أحزاب بديلة لتلك التي سمحت باستباحة الساحة الفلسطينية ودفعتها حزبيتها وعصبويتها إلى إراقة الدم الفلسطيني الذي كان في يوم ما مقدساً وخطاً أحمر.
مستقبل مفتوح لكنه مجهول
هذه الظروف المأساوية جعلت البروفيسور جورج جقمان أستاذ الفلسفة والسياسة في جامعة بيرزيت، يتساءل، لماذا لم ينشأ حتى الأن أو لم يتمكن أحد من إنشاء حزب سياسي جديد؟ وحتى لو نشأ حزب جديد، ماذا في إمكانه أن يفعل؟ "فنحن تحت الاحتلال وهذه هي القضية الأساسية".
ويرى أنه توجد عدة أسباب لذلك، ولكن تاريخياً الشرعية السياسية للأحزاب الفلسطينية قامت على مناهضة الاحتلال بما في ذلك الكفاح المسلح، والآن هذا الأمر متعذر في الضفة الغربية. وفي قطاع غزة "حماس" حركة مقاومة، ولكن يعتقد أنها خسرت عندما استلمت الحكم، "فأي طرف يستلم الحكم تحت الحصار لا يمكنه حل المشاكل لجميع الناس. وبالتالي توجد قيود موضوعية على إمكانية إنشاء حزب يحوز على شرعية داخلية على الأقل في الوضع الراهن".
ويقول د. جقمان "إن نشؤ حزب جديد من حيث المبدأ شيء مرغوب به، لكن ماذا يمكنه أن يفعل؟ غير كونه سيشكل عنصراً ضاغطاً على حركتي حماس وفتح، خاصة إذا كانت له قاعدة شعبية واسعة، ولكنه يؤكد أنه حتى الآن لم يكن هذا ممكناً، مع أن وجود حزب مثل هذا قد يمكنه أن يلعب دوراً مهماً خاصة أن أحزاب منظمة التحرير وخاصة تلك الممثلة في لجنتها التنفيذية لا دور سياسي لها كما تفتقد اللجنة لأي دور فاعل.
أما المستقبل فيرى جقمان أنه مفتوح ويتوقف على الكثير من الأمور، لكنه مجهول ولا أحد يدري كيف يمكن أن يحدث، ولكن بنظرة تاريخية ما دام هناك شعب على أرضه سينشأ بينه قوى ليكون لها دور مؤثر وفاعل.
ويقول جقمان: "إن كان لا بد من وجود حزب جديد على الساحة الفلسطينية، فعليه أن يتمثل برنامجه العام وهدفه الرئيسي هو مقاومة الاحتلال وتحقيق الاستقلال والحقوق الوطنية الفلسطينية، مع مراعاة قضايا داخلية أخرى تتعلق بوجود سلطة سياسية تحكم الشعب على أرضه".
ضعف في الأفق من إنشاء حزب
ويؤكد د. جقمان على الحاجة لقوى سياسية تؤثر على سلوك "حماس" والسلطة الفلسطينية إزاء الاحتلال، وقال: "هذه قضايا يجب أن يأخذها بالاعتبار أي حزب جديد في برنامجه، لكن هناك ضعف في الأفق من إمكانية إنشاء مثل هذا الحزب على الأقل في المدى القريب ولكن في المدى الأبعد قد تكون إمكانية متاحة أكثر، والوضع الراهن برأيي غير قابل للاستمرار وللاستدامة، وأقصد هنا أن وجود سبب سياسي كاستمرار الاحتلال ومصادرة الأرض وعنف المستعمرين قد تكون من مبررات وجود حزب سياسي قوي وفاعل، ولكن إن أراد النجاح في كسب ثقة الشارع عليه ألا يكون إضافة نوعية قادرة على التغيير وعليه الحذر من أن يكون مكرراً لباقي الأحزاب"، ولكنه يستبعد حصول ذلك في العام الحالي أو وقت قريب.
تخريب الساحة الفلسطينية بالمال السياسي
ولكن د. حسن خريشة النائب الثاني لرئيس المجلس التشريعي الفلسطيني وأحد نشطاء العمل الوطنين كان له تجربة في محاولة إنشاء حركة "وطن" والتي حصلت على كل التراخيص اللازمة لكنها كانت بحاجة للمال الذاتي لضمان استمراريتها وتحولها إلى قوة فاعلة. وهي حالة تؤرق الكثير من الناس وتحديداً المستقلين والذين لهم خبرة وتجربة نضالية طوال الفترة الماضية.
وقال خريشة: "هناك محاولات للملمة بعض الوجوه النظيفة والمشهود لها في الأمانة والصدق، عملنا بهذا الاتجاه وأسميناها حركة "وطن" وحصلنا على ترخيص حينها من الرئيس محمود عباس، وتم تسجيلها في لجنة الانتخابات المركزية، ولكن بقيت العقبة الأساسية، والإمكانيات غير متوفرة لأحد سوى لحركتي "حماس" و"فتح"، والفصائل الأخرى التي تحصل على المال من الصندوق القومي الفلسطيني.
ويعرب خريشة عن أسفه لتسخير المال السياسي لخدمة برامج سياسية في الساحة الفلسطينية التي تم تخربها بالمال، بمعنى أن كل تجمع يريد أن يفعل شيئاً ما مقابل المال، لذلك يرى أن كل الأحزاب القائمة مثل بعضها البعض، وكل برامجها تقريباً متشابهة.
حركة سياسية وسطية
ويرى خريشة أن الساحة الفلسطينية بحاجة إلى حركة سياسية وسطية بين "حماس" و"فتح" كمحاولة حركة "وطن" التي كان بصدد إنشائها وهي عبارة عن تجمع من كل الشخصيات في الداخل والخارج، لكنه قال: "إن لم يكن المال أولاً وثانياً وثالثاً، وهذا للأسف غير متوفر وإن توفر فإنه يتوفر من خلال دول أو مؤسسات أو منظمات غير حكومية".
أجندتنا وطنية وليست أجنبية أو مخابراتية
ويرفض خريشة التعامل مع المنظمات الأهلية بصورة أو بأخرى، ويشعر بأن لها أجندة مختلفة عن الأجندة الوطنية على حد تعبيره، كما يرفض الارتباط بدول لها اشتراطاتها السياسية للحصول على المال، وبقول: "تلاحظون أي شيء جديد يظهر، إما أن يكون مرتبطاً بأجندة المنظمات الأهلية أو مرتبطاً بهذه الدولة أو مخابراتها، ومع ذلك تجد هناك قيادات في شعبنا الفلسطيني تصفق لهؤلاء".
ويعتقد وجود صعوبة شائكة لإنشاء حزب سياسي، إلا إذا كان هناك تحرك شعبي جماهيري واضح يشتغل ويبادر لإنشاء مثل هذا الحزب القوي والفاعل يبادر للتغيير الإيجابي، ويرى أن المطلوب في هذه المرحلة إيجاد الشخصية القيادية التي تحظى بثقة وحب الشعب بحيث يكون لها تاريخ وحاضر ويد نظيفة وليس لها علاقة بفساد وإفساد.
أما البرامج فيقول: "كل برامج التنظيمات متشابهة، ولكن ما يميزها هو شخوصها القيادية، وبالتالي فإن الجماهير تتقبل أي شخصيات غير ملوثة وتلتصق بالهم الوطني العام وتتخذ قرارها من رأسها بعيداً عن الأجندات الخارجية". ويرى أنه إذا ما تم هذا فإنهم سيحصلون على ثقة جمهور كبير وتحديداً على ثقة الشباب لأنهم أدوات التغيير في الساحة الفلسطينية، في حين أن ما كنا نصفهم بضمير الأمة "المثقفين" فقد ثبت بالتجربة أنهم يعملون وفق أمزجتهم وأجندات خارجية وأصبحوا يخدمون الممول وهي ثقافة يجب أن تنتهي. ويؤكد أن كل الذين يشتغلون في المنظمات غير الحكومية وتمطر عليه أموالاً هائلة فإنهم يفشلون ولا يحصدون أصواتاً في الانتخابات لأن غالبية الناس يشعرون أنهم كذابين.
ويقول خريشة: "إن محاولات إنشاء أحزاب جديدة التي تظهر دائماً تطفو على السطح ويلتف عليها مجموعات من الناس وفجأة تجدهم غير قادرين على تمويل فتح مكتب لإدارة العمل الحزبي والتنظيمي من خلاله، وبالتالي فإنها جهود غير كافية لإدارة حركة سياسية أو تجمع الذي ينبغي عليه أن يكون على مستوى التحدي للقطبين الأكبر في الساحة الفلسطينية".
ويؤكد د.خريشة أنه على الرغم من أهمية المال، ولكن من المؤسف أن هذا المال أحدث تغيراً كبيراً فجعل الالتحاق بالثورة والانتماء لتنظيماتها بدلاً من أن يكون لأهداف نضالية أصبح لمكاسب مالية وبات الفدائي يتلقى أموالاً، وأصبح النضال بالإنابة هو السائد حتى هذه اللحظة، لذلك تخشى التنظيمات إغضاب القائد والذي هو الممول.
لسنا بحاجة إلى أحزاب جديدة والحل في تشكيل قيادة وطنية موحدة وإنهاء حالة الانقسام
ولكن الدكتور مصطفى البرغوثي، الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، لا يعتقد أن الساحة الفلسطينية بحاجة إلى أحزاب جديدة، ويقول: "الحل لا يكون بحزب يحل محل الحزبين الآخرين، بل الحل يكون بتعاون القوى مع بعضها لإنهاء حالة الخلاف والانقسام القائم".
وبالرغم من أن الساحة الفلسطينية مفتوحة لمن يريد إنشاء حزب أو أي حركة سياسية، ولكن يرى البرغوثي أن المطلوب الأن هو انضواء حماس والجهاد الإسلامي في منظمة التحرير الفلسطينية، وأن تنشأ قيادة وطنية موحدة بأسرع وقت ممكن، والشيء الوحيد الذي يمكن الرد به على نتنياهو هو تشكيل قيادة وطنية موحدة وإنهاء حالة الانقسام القائمة الحالية، وهذا لا يمنع أي طرف سياسي يريد أن ينشط ضمن الأطر القائمة أو من خلال أطر جديدة ولكن "دون إنهاء الانقسام من حيث المبدأ لا يمكن أن نتقدم إلى الأمام".
الإصلاح السياسي بالانتخابات
ومع إقرار البرغوثي بوجود أزمة ثقة ما بين القاعدة الجماهيرية والأحزاب الفلسطينية، لكنه يرى أنه ما زالت هذه القوى لها شعبيتها وتأييدها وامتداداتها وقال: "لا نريد أن نخسر أحد ولكن في نهاية المطاف فإن النظام السياسي لا يصلح بمصالحة ولن يتم إصلاحه حتى بدخول القوى إلى منظمة التحرير فإلاصلاح السياسي الحقيقي يتحقق عندما تجري انتخابات حرة ديمقراطية للبرلمان وللرئاسة وللمجلس الوطني أيضاً، عندها الشعب يستطيع أن يقرر ويمنح أصواته سواء لأحزاب قائمة أو جديدة لكن بدون إعطاء الشعب هذه الفرصة سيبقى الوضع السياسي معقد وسيبقى الحراك السياسي معطل".
اعتبارات سياسية و قانونية لعدم نشوء أحزاب جديدة
أما د. عمار الدويك أستاذ الإدارة والقانون في جامعة بيرزيت، فيرى أن هناك اعتبارات سياسية وأخرى قانونية لعدم نشوء أحزاب سياسية جديدة قادرة على إخراج الساحة الفلسطينية من حالة التوهان التي وضعتها فيها حركتي "حماس" و"فتح".
فمن الناحية القانونية يؤكد الدويك أنه بالرغم من أن القانون الأساسي نص على أن من حق الفلسطينيين تشكيل أحزاب سياسية، إلا أنه منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وإلى الآن لم يتم إصدار قانون الأحزاب السياسية، مؤكداً تعمد الأطراف ذات العلاقة في السلطة الفلسطينية وحتى في الفصائل لإبقاء موضوع تنظيم العمل السياسي في فلسطين كما هو دون أن يكون له إطار قانوني واضح.
قانون تنظيم الأحزاب السياسية يحرج بعض الفصائل
وقال: "هناك اعتبارات مشروعة لهذا الموقف منها ما يتعلق بوجود احتلال وأخرى تتعلق بأن الفصائل الفلسطينية تاريخياً موجودة ولها قيادات في داخل الوطن وخارجه، وأجسامها ممتدة للخارج، فوجود تنظيم الأحزاب السياسية قد يخلق حرجاً لبعض الفصائل في العمل السياسي الفلسطيني بما في ذلك "فتح" و"حماس" و"الشعبية" وكل فصائل منظمة التحرير، وبالتالي كان هناك الاتفاق الضمني لعدم تنظيم عمل الأحزاب السياسية ضمن إطار قانوني في الوقت الحالي".
وأشار إلى أن هنالك أحزاب قليلة جداً تشكلت منذ قدوم السلطة ولكن هذه عادة تتشكل بدون وجود مرجعية قانونية واضحة وبقرار من وزير الداخلية أو بقرار من الرئيس، لكن كيف تتشكل الأحزاب؟ وكم عدد أعضائها؟ ومن يراقب على مصادرها التمويلية؟ وكيف تجري الانتخابات فيها؟ وكيف تختار هيئاتها القيادية؟ وما هي حقوق أعضائها وواجباتهم؟ كل هذه الأمور لا يوجد لها تنظيم قانوني في فلسطين، فموضوع الأحزاب السياسية لا يوجد له تنظيم كافٍ من الناحية القانونية.
وجود فصائل قوية حال دون وجود تنظيم أحزاب سياسية
وبستدرك الدويك بقوله: "هذا لا يمنع وجود عمل سياسي وقد يكون وجود فصائل قوية هو الذي حال دون وجود تنظيم أحزاب سياسية في فلسطين وجود الفصائل بهذه القوة وهي لها خصوصية وترتيباتها ولها ثقافتها التنظيمية وجزء منها يعمل بشكل سري لأن جزءاً منها يعتبر محظوراً بسبب الإجراءات الإسرائيلية، وبالتالي هي لا تريد أن يكون هناك تنظيم قانوني يلزمها كشف كل شيء وتكون العضوية فيها علانية ومصادر تمويلها علنية".
وأكد أن ثنائية القطبية بين "فتح" و"حماس" سيفشل قانون الأحزاب السياسية فيما لو صدر ولا يعتقد أن هذا سيكسر ثنائية القطبية في العمل السياسي الفلسطيني، ويرى أن هذه الحالة ستستمر لفترة طويلة، وأن خروج بديل ثالث يكون موازياً للتنظيمين الأكبر "فتح وحماس" لا يعتقد أن هذا الشيء يمكن أن يحصل في المدى المنظور، وقال: "العمل السياسي دائماً محرقة وعادة تكون الأحزاب السياسية اقل المؤسسات التي تحظى بثقة المواطنين حتى في أكثر الدول ديمقراطية فلا يوجد ثقة بالأحزاب السياسية في كل العالم".
ويقدر الدويك أن "فتح" و"حماس" ستبقيان المهيمنتان على الساحة، وقال: "من المحتمل أن تضعف "فتح" في المستقبل إذا لم يكن هنالك آليات واضحة لخلافة الرئيس عباس وموضوع خلاف فتح الداخلي مع دحلان، وأيضاً انفصال الضفة وغزة والذي كله قد يؤثر على "فتح" في المستقبل، وقد يؤدي إلى ظهور بعض الأجسام داخلها تنبثق عنها وتدعي تمثيلها.
وأكد الدويك أن وضع النظام السياسي الفلسطيني حالياً غير صحي لسوء أحوال الأحزاب السياسية التي بحاجة إلى وجود نظام سياسي مستقر وانتخابات حرة ونزيهة ودورية، لتنشط أعمالها، وأن طبيعة التحديات التي تواجه النظام والقضية الفلسطينية لا تخلق أجواء مناسبة لظهور أحزاب سياسية قوية في الوقت الحالي، وقال: "فمن الناحيتين القانونية والسياسية لا تخدم ظهور أحزاب سياسية في الوقت الحالي، والأغلب أن تبقى الفصائل هي المهيمنة على العمل السياسي الفلسطيني".