كل عام وأنا أتابع انعقاد الدورة العامة للأمم المتحدة على شاشات التلفزيون، ومهما بلغت أهمية ما يتحدث عنه الزعيم الواقف على المنصة، أجد نفسي منصرفة عن متابعة كلمته بالخلفية الخضراء من ورائه، فأمام تلك الخلفية يقف ديكتاتور يقمع شعبه متشدقاً بالديمقراطية فلا يصدقه أحد، ومن فوق المنبر نفسه يعد زعيم بإصلاحات فيما الطائفية والفساد ينخران كالسوس في مؤسسات بلاده ويتغلغلان في بنيتها التحتية، تتلون الوجوة وتتوالى الكلمات المعدة بدقة كي تستر عورات سيفضحها التاريخ، وتبقى الخلفية الخضراء كما هي، شاهدة على نفاق وكذب وفساد الكثيرين.
كل عام تتغير موضوعات الأجندة الدولية، ترافق هذا التغير تحولات جذرية في العلاقات والصداقات، لكن المشاهد تقريباً واحدة، اعتدناها حتى حفظناها، أجواء دولية مشحونة، لقاءات هامشية إما تقرب وجهات النظر أو تكرس للتباعد، أما مستقبل المنطقة فيرسم في الدهاليز وراء الأبواب المغلقة حيث تصنع الأحداث بعيداً عن تصريحات رسمية محسوبة تخفي أكثر مما تكشف.
هذا العام يدور الحديث عن التنمية المستدامة، الأزمة السورية المستعصية على الحل حاضرة في كل وقت، والأعين لا شك منصبة على اللقاء المرتقب بين أوباما وبوتين: من دعا إليه، واشنطن أم موسكو؟ وأيهما يأتي قبل الآخر، سوريا أم أوكرانيا؟
لكن ما أنتظره أنا بفارغ الصبر هذا العام وأعتبره أكثر أهمية من كل تلك الكلمات التي غالباً ما لا تحمل أي جديد هو لحظة رفع علم فلسطين فوق مقر الأمم المتحدة نهاية الشهر، هنا قد يتساءل قارئ أي فارق ستصنعه رفرفة ذلك العلم في نيويورك فيما الأراضي الفلسطينية ترزح تحت سيطرة احتلال يسرق الأرض ويقتل أصحابها أو يزج بهم في السجون دون رقيب أو حسيب وعلى الاتفاقات الدولية السلام؟ قارئ أخر قد يسخر من عاطفية كاتبة المقال، وثالث فاقد للاهتمام، ربما يعرض عن القراءة، فالبعض منا يخشى أن ينكأ الحديث جرحاً ما عمره الطويل إلا دليل على عجزنا المؤلم عن مداواته.
السؤال هو، هل من قيمة حقيقية لرفع العلم الفلسطيني فوق مقر الأمم المتحدة بغض النظر عن طبيعة تلك القيمة، وسواء أكانت كمية أو نوعية، مادية أو رمزية؟ الإجابة هي أن رفع العلم لن يغير من عقيدة الاحتلال شيئاً، وبالتالي لن تقل أعداد مناضلين فلسطينيين شبان يقتلون يومياً في مواجهات مع الشرطة الإسرائيلية ولن تتوقف الاعتقالات التعسفية غير القانونية، وقطعاً لن يقيم الاحتلال وزناً لأرواح أسراه، أما الاستيطان فكابوس سيظل يلاحقنا في يقظتنا، لكنها تبقى خطوة، صفعة على وجه احتلال لا يطمح فقط بالتمدد والتوسع، بل بأن تستقبل أطماعه بابتسامة دولية عريضة، وأن تلقى جرائمه قبولاً غير مشروط بقيد، ولهذا فإن رفع العلم الذي تسبقه مقاطعة دولية لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية ومن قبلهما اعترافات أوروبية متأخرة بالدولة الفلسطينية، كلها أسلحة ناعمة تشهرها الدبلوماسية الفلسطينية في وجه إسرائيل، علها تفلح فيما فشلت فيه الجيوش فشلاً ذريعاً.