وحدها فقط الأحزاب الإسلاميه، وأنا لا أدافع عنها أو أهاجمها، التي لا تحارب طواحين الهواء والتي تملك قاعدة ورأساً واتصالاً بين الرأس والقاعدة ما زال قائماً. أما باقي الأحزاب، سواء اليسارية أو القومية، فأصبحت دون استثناء عبارة عن تاريخ بلا حاضر وعن رأس بلا جسد.
صديقي يوسف المحمود أهداني يوماً رواية الدونكيشوت ديلامانشا، عكفت ثلاثة أيام على قراءة الرواية التي تعتبر من التراث الإسباني والتي تتحدث عن النبيل الذي تخيل نفسه فارساً جوالاً من العصور الوسطى، وبدأ يطوف الأرض عرضاً وطولاً، فمرة يحارب طواحين الهواء ومرة يعلن نفسه أميراً على المقاطعات الإسبانية وهو يرتدي لباس فرسان العصور الوسطى الذي ابتدعه من حوض الحمام، وهو يركب حصاناً هرماً مثله ومرافقه سانشو الذي اقتنع بسيده والذي وعده بأن يقتطع له أرضاً كي يصير عليها أميراً. وتسير الرواية بهزلية كبيرة حين يحرر المجرمين ويأمرهم أن يعترفوا له بأن حبيبته هي أجمل امرأة في العالم.
أحداث تنطبق على الأحزاب العربية التي أصبحت ترتدي ملابس الحرب وتعيش في زمن العصور الوسطى وتفاخر بتاريخ مهزوم لم يكتب منه إلا النكبات، وتأتي كي تفرض علينا أن نعترف لها بوقائع مزيفة لم تكن أصلاً مدعاة للتفاخر. فكيف وصلت هذه الأحزاب إلى هذه المأساة؟ وأين أصبح جمهورها؟ ولماذا سقطت أفكارها؟
أحد قادة حركة حماس في أحد السجون رفع قدميه في الهواء وهو يجلس على البرش (السرير الذي ينام عليه الأسرى) وقال: "أخشى ما أخشاه أن يجد قادة حماس أنفسهم يوماً هكذا" ولوح بقدميه في الهواء. الرجل قصد أن ينفصل القادة عن القاعدة. خوف القيادي في حماس هو الذي لم يدركه قادة الأحزاب اليسارية والقومية فوقعوا في هذه المتاهة. قاعدة هذه الأحزاب انفضت من حول القيادة بعد أن أصبحت القيادة تمارس الدونكشوتية ولم يبق حولها إلا بعض السانشوهات الذين يظنون أنهم سيستفيدون منها، والموعدون ببعض الامتيازات التي على الأغلب لن تكون ولن يجدونها لحظة الحقيقة.
إن القاعدة لأي حزب أو تنظيم تحتاج أولاً إلى أفكار مقنعة، وللأسف فقادة الأحزاب العربية باتوا هم أنفسهم غير مقتنعين بأفكارهم التي حملوها على مدار نصف قرن، وعليه فإن الأجيال الجديدة لم تعد قادرة على هضم هذه الأفكار أو استصاغة طعمها، فانتفت الدماء الجديدة من هذه الأحزاب وظل العجائز يرددون الحكايا التي لم نعد نقبلها، وإن قبلناها فمن باب التسلية والاستمتاع، وحين نضج نقول المثل الفلسطيني (لا أكذب من شاب تغرب إلا شيخ ماتت أجياله)، وكما قال نزار قباني ((لا تفاخر أمام الشقراء ببطولات الزير وعنتره)).
إن ما تعيشه الأمة يحتاج إلى حلول عملية، والنظريات المكتوبة لم تعد مجدية، وحتى اللحظة، الأحزاب العربية تطرح أفكاراً نظرية، ولذلك لا تتجاوز شفاه قادتها وتصبح سراباً. الجمهور العريض للأحزاب العربية الذي كان بالملايين إما أنه عاد إلى البيت والتزم مشاهدة الخبر عبر شاشة التلفزة، وإما ذهب نحو الأحزاب الإسلامية التي يرى أنها قادرة على تنفيذ الأفكار التي تطرحها أمامه. خاصة أن قادة الأحزاب الإسلامية يتواصلون مع قاعدتهم بشكل مباشر، سواء من خلال المساجد التي تعتبر المنبر الأهم لهم أو من خلال العمل الخيري الذي يشكل الأداة الأكثر نجاعة لهذه الأحزاب لكسب الجماهير.
إن قادة الأحزاب الإسلاميه ما زالوا جزءاً من الواقع، وعليه هم أقدر على جمع القاعدة بسهولة، عكس قادة الأحزاب العلمانية واليسارية الذين أصبحوا إما جزءاً من النظام الحاكم أو تابعين له أو معارضين له بالقول لا بالفعل. القاعدة قادرة على الصمود إذا وجدت قيادة صامدة وقيادة تقاسمها المعاناة والنصب، لكن حين تجد القاعدة نفسها تواجه المخاطر والمتاعب وقادتها يعيشون في فنادق وأبراج عاجية، فإنها تنهزم وتعود أدراجها بعد أن تلعن القادة.
استحضرني ما قاله أبو بكر رضي الله عنه: ((حين كانت المعركة تشتد كنا نحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم)). أفكار الأحزاب العربية سقطت لأنها نظرية وليست أفكاراً عملية والفارق بين النظري والعملي كبير، فلا يمكن لفكرة أن تبقى قائمة حتى تختبر وأفكار بعض هذه الأحزاب ظلت حبراً على ورق منذ ميلادها وحتى اليو. في البداية تجد الأفكار من يحملها وينظر لها، وفي الغالب المنظرون ليسوا هم من يخوض المعركة، لكن حتى المنظرون، إن لم يختبروا الأفكار التي يحملونها يصبحون أول من يكفر بها وقد يكونون الأداة الأهم في نقضها. وحتى لا نبتعد عن الفكره الرئيسية سيقول قائل إن أفكار هذه الأحزاب اختبرت في يوم ما وفشلت، لكن أصحابها لا يعترفون بفشلها اليوم ويصرون على أنها قادرة على إنجاز مهمتها، وبما أنهم كذلك فعليهم أن يقنعوا قاعدتهم المتآكلة بأن أفكارهم لو خضعت للاختبار على الأرض ستنجح. وعليهم لمرة واحدة ان يخلعوا ثياب الدونكشوت وأن يلبسوا ملابس العصر الذي يعيشون فيه، وألا يتفاخروا بما أصبح تاريخاً. لا يجوز لأحد، حتى المعارضين للتنظيمات والأحزاب الإسلامية، أن يلومها أو يتهمها بأنها تستغل الدين لتحقيق أهدافها. هذه الأحزاب اختارت أفكاراً عملية ولحظة الاختبار بالنسبة لقاعدتها نجحت، أما قادة الأحزاب القومية واليسارية فاختاروا أفكاراً حين جاءت لحظة اختبارها لم تسقط فقط، بل هم أيضاً سقطوا لأنهم إما لم يحملوها عن قناعة وإما لأنهم لم يفهموها بشكل صحيح وطبقوها بشكل معاكس. النتيجة أنهم فشلوا.