يُصر البعض على أنَّ العولمة وفي سياق التطور التاريخي الجاري على الحياة البشرية كانت ضرورة يجب أن تَعْقُب مرحلة ما بعد الحداثة التي أفرزها التقدم التكنولوجي والصناعي في أعقاب الثورة الصناعية التي حدثت في أُوروبا خلال القرن التَّاسع عشر، والتي جاءَت كسياقٍ طبيعي لتطور نمط الصناعات اليدوية الممكننة وما أحدثه ذلك من تغييراتٍ اقتصادية واجتماعية وثقافية في عموم أوروبا، والتي اجتاحت بتأثيراتها وجه العالم مع بداية القرن العشرين، ويقدم البعض تعريفاً تجريدياً للعولمة على أنَّها: حريَّة انتقال السلع والبضائع والخدمات والأفكار والمعلومات والأفراد عبر العالم دونما حدود أو قيود.
لكن يغفلُ البعض أيضاً أنَّ مفاهيم العولمة هذه - مع التطور النَّوعي والهائل الذي جرى في مجالات الاتصالات على اختلافها وما رافق ذلك من التأثيرات الحادة والفعَّالة لوسائل الإعلام - استخدمت على نحوٍ يُفضي في النهاية إلى سيطرة أنماطٍ ثقافيَّة وأخلاقيَّة وسلوكيَّة معيَّنة تفرضها الأمم القويَّة على الأمم الضعيفة وتفرضها الدول والقوى العظمى على الدُّول الأضعف لإمضاء مخططاتها وتنفيذ مشاريعها وتحقيق مصالحها بما يخدم تحقيق مفاهيم وواقع الهيمنة الثقافية والاقتصادية، وهذا ما استدعى تناول مفاهيم إعادة الهيكلة لاقتصاديات الدول والمجتمعات النامية والضعيفة ومفاهيم الخصخصة – خصخصة الخدمات الحكومية وخصخصة برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليميَّة والمعرفيَّة والثقافيَّة وحتَّى برامج الضمان والرِّعاية الاجتماعية والصحيَّة وصولاً إلى خصخصة الثروات القوميَّة للأمم – كمُسلَّمات بديهيَّة ضروريَّة لدخول عصر العولمة ومواكبة عصر ما بعد الحداثة.
تجلِّيات عصر العولمة كثيرة في عدَّة نواحٍ لا يتسع المجال لذكرها، ولكن إنَّ ما يهمُّنا منها هنا - وعلى سبيل المثال – ذلك الجانب المتصل بتأثير ثورة الاتصالات وتأثيرات وسائل الإعلام وسهولة وصول الأخبار والمعلومات والتفاعل معها بأدواتٍ يتم اختيارها بعناية، وضمن سياسات على الأغلب أنَّها مرسومة بدقَّةٍ وهادفةٍ بالإجمال.
وأبرز تلك التجليَّات تراجع تأثير ودور الكلمة المكتوبة أو المنطوقة لصالح التأثير الحاد والفعَّال للصُّورة التي يتم نشرها الآن من خلال شبكةٍ ضخمة شاملة وسريعة عبر الفضاء وعبر شبكات التواصل الاجتماعي العنكبوتيَّة، مع ما للصورة من تأثيرات عاطفية مباشرة وما للصورة من ميِّزةِ إيصال الفكرة أو الترويج لموضوعٍ ومفهومٍ ما بطريقة سهلة لكنها في الغالب انفعاليَّة، وكذلك استخدام تأثير الصورة في التأثير في اتِّجاهات الرأي العام على نحوٍ منهجي ومُتَحَكَّمٌ به، ودون أنْ يجري التدقيق جيداً بالدَّافع والهدف من وراء نشر تلك الصور، وما يستجلبه ذلك من انفعالات تبقى في الغالب في حدود المعنى التجريدي والميكانيكي للصورة، وفي حدود التعليقات المباشرة المُتاحة عليها عبر ما يتوفَّر من أدوات ووسائل شخصيَّة تتيحها شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونيَّة.
يقودنا هذا إلى الحديث عن مفهوم – الإمتثاليَّة - الَّذي أسهمت وسائل الإعلام وإحدى أدواتها الصورة في تعزيز وجوده في الحياة الخاصَّة والعامَّة للأفراد والمجتمعات.
فالإمتثاليَّة تعني: أنْ يتحدَّث الجميع عن أمرٍ ما أو حولَ موضوعٍ ما دون أنْ يشعرَ أيُّ واحدٍ منهم بالالتزام الفعلي أو الأخلاقي العملي تجاهه، وبالتَّالي يتم تفريغ انفعالاتهم تجاه ذلك الأمر بمجرد التعليق الكلامي أو التعبير اللفظي الانفعالي، ويوحي ذلك بالشعور الزائف بأهمية الموقف والسلوك الشخصي الانفعالي الدَّاخلي والنظري تجاه أمرٍ عام في حدود الشخصيَّة أو ضمن الدَّائرة الشخصيَّة الضَّيِّقة، دون أنْ يكون لذلك أي تأثير عملي أو واقعي، وذلك ما يمكننا تصنيفه ضمن سياق الإمتثالية الأخلاقيَّة.
ويتجلَّى ذلك بوضوح تجاه القضايا والأحداث السياسية التي تحظى باهتمام الجميع ويتحدث حولها الجميع، ونجد أنَّ ما يطلقه الأفراد من مواقف تجاه السياسات والأحداث السياسية التي تعصف بأماكن كثيرة من منطقتنا والعالم لا يعدو عن كونه نوعاً من الإمتثاليَّة السياسيَّة ليس إلَّا.