تصل طالبة إلى إحدى مدارس قطاع غزة الثانوية الحكومية برفقة أبيها لتبدأ عاماً دراسياً جديداً. لكن مديرة المدرسة كان لها رأي آخر، فأعادت البنت إلى أبيها ورفضت أن تدخل المدرسة مشترطة ارتداء الحجاب حتى تمارس الطالبة حقها الطبيعي في التعليم... هذا مشهد حدث فعلاً خلال الأسابيع الماضية وفي مدرسة تتلقى تمويلها ويتقاضى المدرسون فيها رواتبهم من وزارة التربية والتعليم الفلسطينية في حكومة "الوفاق" الممنوعة من العمل في غزة من قبل سلطة أمر الواقع التابعة لحركة حماس.
غياب القانون عن حياة أي مجتمع ينتج عنه خلط خطير للمفاهيم وتشويه للمبادئ الأساسية التي تحدد شكل وهوية ذلك المجتمع. والغياب هنا ليس مرتبطاً بغياب النصوص بل بتطبيقها بطريقة تصون كرامة الإنسان وتحافظ على مبدأ المساواة بين المواطنين. هذا يفسر تنامي استخدام عبارة فضفاضة يلجأ لها كثيرون في شكواهم أو دفاعهم عن قضايا عامة فتراهم يتحدثون عن انسجام تصرف ما أو مخالفته "للعادات والتقاليد" بدل أن يكون المعيار هو القانون. وأحياناً، يُزَج الدين أيضاً في هذه العبارة فيزداد النقاش صعوبة ويصبح أسير تفسير كل طرف لما هي العادات والتقاليد أو حتى تعليمات الدين. وعليه، تزداد سطوة من يولي نفسه وسيطاً لله بين الناس وتتعمق الهوة بين الحديث عن سلطة القانون واحترام الناس له ويكرس العرف العشائري على حساب مفهوم الدولة المدنية ونتيجة لهذه العوامل كلها، تزداد حالة الانفصام الذي يعيشه مجتمعنا ما بين شعارات الدولة والحقوق المدنية وواقع الفلتان هذا الذي يحيد، بل يكبل، أيدي وألسنة مناصري القانون وسلطته.
وتحت الشعار الفضفاض عن "العادات والتقاليد" بديلاً لسيادة القانون وقيم الدولة المدنية، تلاحق مجندات حماس ومسلحوها الشبان والشابات في مقاهي قطاع غزة وتستهدف الناشطين في القضايا العامة من الشابات تحديداً. وتتذرع قوى الأمر الواقع في غزة بأنها تحافظ على "العادات والتقاليد" فتمنع الاختلاط بين هؤلاء في أماكن عامة ومفتوحة أمام الجميع رغم أن من عاداتنا الأصيلة أن تشبك الشابات والشبان أيديهم بأيدي بعض لتأدية الدبكة والتي باتت تحارب الآن تحت ذات الذرائع الواهية لغاية الإرهاب الفكري والأيديولوجي وفي إطار كي وعي المجتمع لصالح أجندة فصائلية وسياسية.
غياب القانون يفسر أيضاً اللجوء إلى صكوك الصلح العشائري في قضايا كبيرة مثل جرائم القتل وأخرى أصغر مثل خلافات تنشأ بين الناس أو حادث سير عرضي أو غيرها من القضايا التي يعالجها القانون في النصوص المهملة. والمفارقة أن الجميع يشارك في تغييب القانون في هذا الإطار، حتى أن أجهزة الدولة ووجهائها يشاركون في "العطوات" لحل المشاكل بدل الإصرار على تطبيق القانون واحترامه وهذا ما حدث مؤخراً في أكثر من حادثة قتل كان من المفترض أن تكون فرصة لتعزيز سيادة القانون بدل التفريط به!
ولا يتوقف الأمر عند التصرفات الشخصية بل يطال رموزنا الوطنية فتسقط ضحية فلتان المفاهيم وتعدد التفسيرات. وما سهولة الاعتداء على علمنا الوطني وعلى شكله ومكانته إلا مثال عن حالة التيه هذه. علم فلسطين، وهو تجسيد لمسيرة نضال طويلة، يجد من الفصائل والأشخاص من يسمح لنفسه بتغيير العلم بالإضافة أو التغييب الكلي رغم وجود قانون خاص بالعلم يحرم أي تغيير فيه... وهنا تتجلى أزمة المبادئ والقيم، بحيث تشارك فصائل سياسية في تشويه هذا الرمز الوطني أو حتى اعتباره "علماً علمانياً" لا يمثل الشعب الفلسطيني! ذات التشويه طال ويطول النشيد الوطني أيضاً، بحيث حدث أن رفض سياسيون بارزون ومنهم برلمانيون منتخبون الوقوف احتراماً للعلم والنشيد الوطني تحت ذات الذرائع الواهية.
ذات فلتان المفاهيم ينتج عنه نقاشات حادة حول مشاركة المرأة في المقاومة السلمية أو المسلحة وعن صحة تواجدها في المسيرات الاحتجاجية والمواجهات الشعبية مع الاحتلال إلى درجة أن البعض يهاجم هؤلاء الفتيات باعتبارهن يخالفن "العادات والتقاليد". وتذهب بعض المواقع التي تدعي أنها إعلامية إلى تحريف صور النساء بإلباسهن الحجاب عنوة أو حتى إخفاء وجوههن وكأنهن عورات يجب إخفاؤها ولا يجدون من يصارحهم بحقيقة حول منطقهم وعور مفاهيمهم وعمق جهلهم الذي يتجاهل أن أول وفد سياسي طالب بالاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال البريطاني لفلسطين كان وفداً من النساء الفلسطينيات اللواتي لم ولن يتوقفن عن المشاركة النوعية في حركة التحرر الوطنية.
مع الفلتان نحن نعاني من الانفصام بحيث نتغنى بالمجتمعات المنسجمة مع نفسها والتي تحترم القانون باعتباره مرآة لقيم المجتمع. نحيي البرازيل، التي رفضت مؤخراً قبول أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي لأنه مستوطن وألمانيا والنمسا وأيسلندا وغيرهم حيث خرج الآلاف لاستقبال اللاجئين السوريين وانصاعت الحكومات لقوانينها التي تعتبر الحفاظ على كرامة الإنسان أساساً ومسبباً للتشريعات. وفي الوقت ذاته نغيب القانون مع سبق الإصرار والترصد.
غياب القانون وفلتان المفاهيم حالة تعكس تقصيراً في أداء المؤسسات الوطنية المنوط بها تطبيق القانون روحاً ونصاً وقصوراً فصائلياً وسياسياً خاصة للقوى التي قادت العمل الوطني طيلة عقود مضت وتبنت إعلان الاستقلال الذي يعرف فلسطين دولة تصان فيها الحريات وتعرف المرأة بما يليق بها شريكة في النضال و"حارسة نارنا الدائمة". هذه الحالة تصيب جوهر المجتمع فتغيب القيم المشتركة والمفاهيم الجامعة لتتعزز ثقافة القبائل المتناحرة التي تقاتل لفرض مفاهيمها على بعض. إنه فلتان أشد وطأة من فلتان السلاح