في رسالةٍ إلى أنسي الحاج، كتب له أدونيس متحدّثا عن تجربته الشعرية وعن الرؤى المشتركة بين هذين الشاعرين:
"عزيزي أنسي،
كتبتْ لي خالدة تقول:"سيكون لأنسي شأن يا أدونيس. إنه صوت غريب...".
صوتٌ غريب. تلك هي علامة الذين ليسوا كغيرهم، العلامة التي تفتح الهاوية. و"لن" شهادة أخرى، لكنّ فيها مزيدا من الاستباق والجموح، على عمق هذه الهاوية وامتدادها.".(من كتاب"زمن الشعر")
يشير هذا النص إلى قضية إبداعية مهمّة وهي غرابة النص واغترابه عن زمنه وعن إبداعاته، لا لأنه يسبق الزمن، وهذا وارد في بعض الكتابات وكم هي قليلة،
ولكن لأنه ابن لحظته الزمنية الوفيّ لها والمتمثِّل لخصوصياتها والمنسجم مع معارفها وتجاربها المختلفة عن الأزمنة السابقة.
من هنا تكون الغرابة في كون هذا النوع من النصوص مختلفا لحداثته التي تقف في طريق نقيض لزمن الناس من جهة حيث يغرقون في المألوف والمعاد، ولزمن الثقافة والإبداع السائدين من جهة أخرى.
هذا ما يؤكّده أدونيس في الرسالة ذاتها إذ يقول:
"لسنا من الماضي. هذا هو الخيط الأول في نسيج الظل. اللاماضي هو سرنا. الإنسان عندنا ملجوم بالماضي. نعلمه أن يكسر اللجام ويجمح.
نعلمه أنه ليس حزمة من الأفكار والمصنفات والأوقات، يسمونها تراثا وأن له وجودا مشخصا تاريخيا، يجب، لكي يكون إنسانا ويكون نفسه،
أنْ يعيشه ويستنفده، ويجعل منه قرارا مصيريا، وموقفا. القرار والموقف شخصيان لا تراثيان.".(زمن الشعر).
يكشف كلام أدونيس لأنسي الحاج عن قضايا مهمة جدا يغفل عنها كثير من الشعراء والمبدعين اليوم، وهي أنَّ الكتابة الحقيقية لا تنتمي لأزمنة ماضية؛ إنها بنت الحاضر،
وريح المستقبل البعيد. وهي كذلك لأنها تقطع إمكانات حضور الماضي فيها بوطأته الأبوية، لكنها قد تستثمره إبداعيا وجماليا، وهذا ما فعله كبار الشعراء، وفعله أدونيس نفسه.
لكنها تقاطع تفكيراته ورؤاه وطرق تعبيراته، وفي هذه القطيعة سيقف المبدع وحيدا يبحث له عن صوت مختلف غريب يجعل نصوصه إضافة لا تنويعا، وإبداعا لا تقليدا.
تبدأ هذه القطيعة من حرب على الذات وعلى الذاكرة الإبداعية معا؛ فمن خلال محاربة الذات يتمّ صقل التجارب وسبر الرؤى وتجديد الأدوات الإبداعية.
وإذ يتحقق هذا سيخوض المبدع حربا ضدّ الذاكرة التي تحاول أسره داخل سجن الجاهز كلما أراد الكتابة راحت تطلق في ذهنه الجمل المألوفة التي لا فضل له فيها لأنها نتاج ذاكرة إبداعية جمعية.
إنَّ رهان النص المبدع هو على تشكيل جملة مغايرة، وبوصف أدونيس "جملة غريبة"، ولا يكون هذا ممكنا إلا بامتلاك وعيٍ يؤمن بضرورة الاختلاف عن الموروث لأنه إبداعٌ مرتبط بزمنه وسياقاته الثقافية والإبداعية،
والابتعاد عن السائد الحاضر لأنه مجرّد استرجاعٍ لنصوص بعيدة عن اللحظة الراهنة أو قريبة منها،
لكنها نصوص هي الأخرى مغتربة عن زمنها ولحظتها وتائهة في أزمنة السابقين والمشكلة أنّ أصحابها غير منتبهين لافتقارهم للوعي الضروري الذي امتلكه كل شاعر حقيقي عبر التاريخ واللغات،
والذي يحرّكه هاجس واحد:أنْ تكون أنتَ، لتكون صوتا غريبا.
يحلم النص الغريب ببناء عالم آخر، خلق موجودات أخرى، عن طريق تحطيم دلالات حضور الموجودات ضمن الثقافة السائدة، والبحث عن معاني أخرى لها،
يراها الشاعر لأنه يدرك خصوصية انتمائه إلى الزمن وإلى لحظة الفكر المعاصر المشتعلة بالتوق إلى الغامض والمختلف والمتعدد. يوضّح أدونيس هذا بقوله لأنسي:
"هكذا نخطط وجودا يجعل الوجود حولنا غريبا، يمحوه. يسلبه الحضور. هكذا نسقط ونجد خلاصنا في السقوط. هكذا نعلن أنفسنا غواة وخائنين. الهاوية تأتي معنا.
نعرف ذلك. سنعمقها، سنوسّعها، سنصنع لها أجنحة من الريح والضوء."(زمن الشعر).