قابلت كثيرين زاروا (.....) فلسطين/ أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، ثم عادوا وهم يعبرون عن صدمتهم، آخر الزائرات التي استقرت لسنوات ثم غادرت، عادت لتقول إن (الوطن كذبة)! وحين كنت أستفسر كنت أفهم مباشرة أنهم كانوا يحملون حلماً كبيراً، كانوا يرسمون وطناً مثالياً لا محسوبية فيه ولا فوضى ولا فساداً ولا فقراً ولا بطالة ولا ... ولا .. ولا جنود احتلال، إلى آخر المفردات التي تصف الخراب.
أكتب كمن يتقدّم خطوة ويتراجع أخرى، فالموضوع في غاية الحساسية، ويشبه الوقوع في مأزق إلى حد كبير، بل إنه مخيف كالمجهول، والكتابة عنه مجازفة كبيرة، وطنية وإنسانية وأدبية وصحفية.
أنا لم أزر فلسطين ولا أي جزء منها، إلا من خلال مذكرات والدي ووالدتي وجدتي وأخوتي الكبار، لم يصفوا لي الجنة ولا النظام، وصفوا لي علاقاتهم بالأرض وعروق الزيتون ويومياتهم، بما فيها (الطوشات) أي النزاعات والمشاكل وصراعهم مع المحتل الإنجليزي ثم الصهيوني، كما حدثوني عن (المخاتير) والاقطاعيين الذين لم يكونوا جميعا شرفاء، وحدثوني عن حوادث قتل وسرقات داخلية، وأحقاد أيضا، لكنني لم أُصدم في حينها ولا أُصدم حين أتذكرها، وظلت فلسطين الحلم الأزلي الذي يفوق أي حلم. فأنا أعلم جيداً أن بلاداً أنهكتها الحروب على مر التاريخ وشوّهها الاحتلال الصهيوني على مدى أكثر من ستة عقود، لن تكون بلاداً مثالية أبداً.
أنا لا أعرف مذا تعني كلمة (صدمة) في هذا المقام والمقال، وببساطة لا يمكنني أن أُصدم حين أقابل فلسطينياً عصبياً أو يستخدم ألفاظاً نابيةً أو فلسطينياً متسلقاً أو حتى عميلاً وخائناً، ولن أُصدم حين أرى الجنود البشعين على البعد أو حين أمر بهم أو يمرون أمامي، ليس لأني أتقبل العصبية والتسلّق والعمالة والخيانة والاحتلال، بل لأنني أعلم أن بلادي لا تزال تحت الاحتلال، والاحتلال يشوه بعض النفوس، ويدمّر بعضها، ويذل أخرى، مثلما يزيد بعض النفوس قوةً وصموداً وشموخا، وكرماً وعزّةً وبياضا.
نحن لسنا شعباً ملائكياً ولا ملكياً ولم نتنزل من الفردوس الأعلى، ولم ننشأ في بيوت طبيعية في زمن طبيعي، ولم ندرس في مدارس نموذجية، ولم نعرف الحرية يوماً ولم نمارس سيادةً على أرضنا، فلا نعرف المعنى الدقيق للسيادة والدولة والوطن المستقل، حاربَنا القريب والغريب وقتلونا وذبحونا بلا هوادة ولا رحمة، بل حاربنا أنفسنا في لحظات ضجر الغربة واليأس واعتلال الطريق المؤدي إلى فلسطين، وعشنا في أماكن ليست أجمل من فلسطين، ومع بشر يتفاخرون بعائلاتهم وأنسابهم وأصولهم أمامنا، ويريدوننا أن نشعر بالنقص أمامهم، ونحن الذين تسري في شراييننا معاني النبل والعراقة، وكوننا عشنا في المخيمات أو تحت الاحتلال لا يعني أننا صرنا (أقل من البشر)، ولهذا يلعن الفلسطيني الزمن الذي وضعنا في هذا المأزق المربك الذي يجعلنا ندافع عن أنفسنا أمام ترهات العالم. يلعن الفلسطيني الزمن الذي رماه في المخيمات وسلّط عليه حثالة الأرض وأشدهم كفراً ونفاقاً وخيانةً.
أسمع البعض يتذمر من الفلسطيني ويصفه بأنه ماكر وكاذب ومتلوّن وذكي وماهر في العلاقات الاجتماعية، والبعض يصفه بالمنافق والمداهن و و و إلى آخر الصفات المربكة؟
جميل أن الفلسطيني لا يزال يحتفظ بعروبته ومعتقده وانتمائه بعد كل هذه الخيانات التي تعرّض لها، حتى من النساء اللاتي يعشقهن، وبعضهن تسعى إلى ابتزازه وتدميره، وبعضهم يسعى إلى تسخيره. جميل أن الفلسطيني لا يزال يعشق ويحب ويعمل بإخلاص بعد هذا الاستغلال البشع لقدراته ومقدراته.
(غاليتي) الآن توجد في فلسطين، قبل سفرها تحدثنا عن الموضوع ذاته، فذكرت لها (الصدمة)، فقالت لي: (أنا أقوى من هذه الصدمات، وإيماني قوي ببلدي وأبناء بلدي).
هل دافعت عن الخراب الذي أصاب النفس الفلسطينية؟ هل بررت القلق الذي يتغلغل في الروح الفلسطينية ويشويها؟
كلا لم أفعل، ولكنني أقول لكل من يستنشق هواء فلسطين للمرة الأولى، أن يعبىء رئتيه بعطرها وبأحاديث كل الناس القلقين العصبيين والمتوترين الفقراء الغاضبين المتلونين المنافقين، فهم ضحايا الاحتلال.
إن العودة إلى فلسطين لن تكون كافيةً للشعب الفلسطيني في الشتات، فعلى كل أعضاء الأمم المتحدة أن يعوّضوا هذا الفلسطيني معنويا ونفسيا واجتماعيا، لأنهم ساهموا في دماره النفسي والوطني والاقتصادي.
زوروا إذن فلسطين كلما سنحت لكم الفرصة، ولا تعودوا إلا وهي من نسيج أرواحكم، بحلوها ومرها، الملائكة لا يسكنون الأرض..
لو كُتبتْ لي زيارة فلسطين، لنْ أُصدم، لأنني سأبقى هناك، حتى لو خالفت قانون الإقامة، ترى كيف سأخالف قوانين الإقامة وأنا في وطني؟