بقلم: نبيل عمرو
هذا هو العرس الذي لا ينتهي....
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلا شهيدا أو شريد..
هكذا جسّد محمود درويش الحياة الفلسطينية في كل فصولها، وهذه الأبيات حين قيلت، فكأنما تستشرف ما يحدث الآن في غزة، ولعل هذا أحد أسرار خلود الشعر والشاعر، وعبوره كل الأزمان... ذلك أن الشاعر الخالد يعرف الفرق بين تجسيد عميق وبليغ لحياة شعب، وبين ما يقال وغالبا بصورة سطحية في ما سُمي في عالم الشعر.. بشعر المناسبات.
بعد أن رحل محمود عن عالمنا، وفي ذات الزمن رحل معين بسيسو ويوسف الخطيب، وأبو سلمى وراشد حسين وتوفيق زيّاد، بعد أن رحل هؤلاء خلت القمة من عظماء يتربعون عليها، وخلى العرش من ملك يجلس عليه، ويمسك بصولجانه الابداعي الذهبي.
كان هؤلاء، تصدروا الصرح الثقافي الفلسطيني والعربي، وكلهم صبغوا عصرهم بفلسطين، وقدموا بلد النكبة والمأساة بخصائصها الأنبل والأعمق، كقضية اعتنقتها الأمة، وآمن بها كل الأحرار والشرفاء في العالم، وما دمنا في ذكرى غياب محمود درويش، فلنسجل له مأثرة استقطاب أهم مثقفي هذا العصر، وهل ننسى حين أتى محمود بحشد من الحائزين على جائزة نوبل، ليزوروا بعض الوطن الفلسطيني، ويعمقوا التزامهم بعدالة قضية هذا الوطن والشعب، وحين غادروا نشروا بأقلامهم الفذة، حقائق فلسطين، وأطلقوا صرخة في ضمير العالم النائم، ونبه كثيرون منهم أن فلسطين التي أنجبت أهم شاعر في العالم واسمه محمود درويش، وأنجبت معه كوكبة من المبدعين العالميين مثل إدوارد سعيد، وإبراهيم ابو لغد، هذه "الفلسطين" لا يصح أن تظل مخيما أو سجنا أو ساحة مجزرة، إنها الأجدر في أن تكون دولة تنمو في تربتها الثرية أشجار الإبداع والحب والجمال، كما عرف الجالسون على قمة العالم ممن يحملون جائزة نوبل، أن زميلهم محمود درويش حُرم من هذه الجائزة وفق ذات المنطق الذي حُرم به طفل فلسطيني من الحياة، وولد فلسطيني من أن يواصل تعليمه، وموهوب فلسطيني من أن يصير مخترعا ، ولولا هذا الظلم التاريخي والمستمر الذي وقع على شعب فلسطين، ولولا تسييس جائزة نوبل وتحريم منحها إلا لمن ترضى عنه الغرف الخفية لصناعة القرار، لكان حصل عليها محمود درويش من عاشر ديوان نشره على الكون أو لكان حصل عليها من قصيدة تل الزعتر أو الأرض أو مديح الظل العالي أو النزول عن الكرمل، إلا أن محمود الذي كان واثقا من نفسه بل ومن جدارته، بما هو أهم من نوبل، كان كل ما تردد اسمه كمرشح لنيلها، يرسم على وجهه ابتسامة ساخرة ويقول.. إنني أعرف الطريق إليها ولكنني لن أسلكه.
كان محمود الفارس وزين الشباب، الذي تعرفه خيول الروم، يقول .. أي جائزة عادلة تصبح ذات قيمة حقيقية عندما تأتيك دون أن تسعى إليها، والجائزة التي أطمح لنيلها، هي أبسط وأنبل وأجمل بكثير من جائزة تكبلها الشروط السياسية، وتفرغ المستميت من الحصول عليها من جوهره الحقيقي وابداعه الحر.. ها نحن نقول عنه ما لم يقله تواضعا.. جائزتي .. إن عشرات الملايين، من تلميذ في حيفا إلى مثقف في فرنسا إلى نجم ابداعي في أي مكان على وجه الأرض، يحفظ بعضا من أشعاري وحين كنت أقف في أي عاصمة عربية أو عالمية ، فلا وجود لمقاعد فارغة.. كان زحام الجمهور لسماع أشعاري ونفاذ الطبعة العشرين من دواويني، وتسابق مترجمي العالم على نقلها إلى لغاتهم...هي جائزتي التي لا تكسرها أي جائزة أخرى.
لقد اخترق محمود حواجز الأزمان جميعا، وحين نستحضر من التاريخ الشعراء الأوائل، ونصل إلى القرن العشرين أو القرن الحادي والعشرين، فسيفتخر كل فلسطيني، بأن له سفيرا يمثله في قمة العالم.. اسمه محمود درويش.
ولو كان حياً في أيام غزة هذه لتلى علينا خلاصة الملحمة...
لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيدا أو شريد.