كما هي عادته، يُدهش الفنان والمخرج الفلسطيني، خالد جرار، المتابعين لأعماله الفنية في حجم اشتغاله عليها، وتميزها عن غيرها من الأعمال الفنية التي تتصدى لمواضيع وثيمات غير مرئية بصرياً.
وفي عمله الوثائقي الجديد، الذي يعكف عليه حالياً في ألمانيا التي وصلها في رحلة تقص ومعايشة ومتابعة لمجموعة من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين من جزيرة "ميتيليني" اليونانية، بعد أن قدموا من اسطنبول التركية عبر البحر، لمدة قاربت الشهر، صوّر خلالها أكثر من 45 ساعة.
وفي رحلته التي خاض غمارها لوحده، ومن دون أن يعمل لصالح أية جهة فنية أو إعلامية، ذهب بعيداً في مراقبته لجُرح الفلسطينيين والسوريين الفارين من الحرب واللجوء.
فبعد أن عاش اللاجئون تجربة "قوارب الموت" للوصول إلى اليونان، عايش تجربتهم في رحلة اللجوء، والطرد، والمعاملة التي وصفها بـ"الوحشية" منها إلى مقدونيا، وصربيا، وهنجاريا، وصولاً للنمسا فألمانيا التي أصبحت بلد اللجوء والهجرة.
اللجوء للمرة الثانية
وفي حديث هاتفي أجراه معه مراسل الأناضول، قال جرار من مكان تواجده بألمانيا: "رغبت في توثيق رحلة اللجوء الثانية للفلسطينية الحاجة نادرة الهواري وعائلتها، كانت نكبتها الأولى عام 1948 حين هُجّرت من مدينة الناصرة (شمال إسرائيل حالياً)، عندما كان عمرها ٩ سنوات، إلى سوريا، وسكنت مخيم اليرموك هناك، وعندما تركت المخيم قبل عام، لجأت إلى تركيا بعد أحداث الحرب الدائرة في سوريا".
ويضيف: "استغرق تخطيطي للرحلة والوصول للعائلة أكثر من 3 أسابيع، قرأت الكثير من التقارير والأخبار لمعرفة نقاط الخطر، والمناطق التي قد يفقد فيها الإنسان حياته في حال سلكها مثل التهريب عبر ثلاجات اللحوم... ومن ثم قررت المضي قدماً".
ويتابع جرار: "وصلت بالطائرة الى جزيرة ميتيليني اليونانية بتاريخ 7/9/2015، وهناك التقيت بعائلة نادرة الهواري؛ التي لجأت إلى اسطنبول، حيث عاشت عاماً كاملاً باحثة عن وسيلة لتهريبها إلى أوروبا، ونجحت في المرة الثانية بعد أن كادت تفقد أفرادها كافة في المرة الأولى".
ويستطرد: "في مطلع سبتمبر/أيلول، انطلقت العائلة من إسطنبول في باص صغير؛ قسمهم المُهَرِب إلى مجموعات ليتم إعادة تجميعهم في نقطة مجهولة، ليُبحر بهم أحد اللاجئين الذي أُجبر على قيادة القارب المحمل بثلاث أضعاف حمولته بعد أن تعلم القيادة في 10 دقائق فقط".
وبعد تسع ساعات قضاها خالد في الجزيرة اليونانية منتظراً "على أحر من الجمر" كما يصفها، تلقى اتصالاً من "منى" ابنة الحاجة الهواري، أخبرته بوصولهم الجزيرة التي كان عليهم قطع مسافة تزيد على 10 كيلومترات للوصول لأول منطقة مأهولة.
صعد جرار، مخرج الفيلم الوثائقي الطويل "المتسللون" (2012)، برفقة المهاجرين في باخرة يونانية، يوم 7 من الشهر الماضي، الساعة الـ11 ليلاً، بعدم يومين من الانتظار في الشارع، وثّق حينها تعرض اللاجئين لـ"الضرب على يد رجال الشرطة اليونانية"، كما صور المظاهر "العنصرية" التي تعرضوا
لها، مثل كتابة لافتة على أحد المطاعم القريبة من مكان نومهم كُتب عليها: "ممنوع دخول العرب".
مطاردة الكاميرا
لم يكن لدى جرار في هذه الرحلة سوى الكاميرا، وجهاز الجوال الذكي، وهو ما جعله يتعرض للكثير من المواقف الصعبة والمطاردة، وعن هذه المواقف يتحدث: "ذات مرة كنت أصور المعاملة القاسية والوحشية في اليونان، فحاول أفراد من الشرطة مصادرة كاميراتي الخاصة، لكني نجحت في الهروب والاختباء مع عائلة سورية، ومن ثم صعدت الباخرة مستغلاً الفوضى العارمة، والتحقت بعائلة الهواري في رحلة طويلة بالباخرة مع أكثر من ٢٥٠٠ لاجئ، دون أن يتوفر الحد الأدنى من الخدمات الإنسانية".
وبعد أن وصلت الباخرة الى أثينا، كان في استقبال اللاجئين عدد من الصحفيين، غير أن المهربين الذين تسابقوا عليهم "كالغنيمة" كانوا أكثر، بحسب جرار.
قطار متهالك
يواصل المخرج الفلسطيني سرد جانب من المعاناة الإنسانية بعد أن وصلوا أثينا، قائلاً: "بعد ساعة انتظار جاءت حافلة حديثة أقلتنا لسبع ساعات، إلى أن وصلنا الحدود مع مقدونيا، وهناك كانت في استقبالنا شرطة الحدود اليونانية التي كانت تنظم الباصات؛ ومن ثم سرنا لـ ٧ كيلومترات، نزولاً وصعوداً".
وصل الجميع إلى سكة القطار، وهناك أخذت الشرطة المقدونية تنظم اللاجئين في مجموعات.. هنا سمع جرار ومن معه صراخ امرأة، ليكتشوا أن ابنها قد دُهس من سائق مقدوني يبيع السجائر والحلويات للاجئيين.
يمضي خالد في حديثه: "ومن ثم نقلنا قطار متهالك ذو رائحة كريهة، لمسافة طويلة جداً، كان مليئاً بأناس لم يستحم أغلبهم منذ أسبوع، حتى وصلنا الحدود المقدونية – الصربية".
فور نزول اللاجئين، بحسب المخرج، من القطار، وجدوا متطوعين مقدونيين من أهل القرى المجاورة، زوّدوهم بالأكل والماء، وقال لهم أحدهم: "نحن مسلمون ونقوم بهذا العمل في سبيل الله"، ومن ثم مشوا بلا توقف مسافة أربع كيلومترات في طريق شاقةٍ ووعرة، وكانوا يتناوبون في دفع "الحاجة نادرة" على الكرسي المتحرك إلى أن عبروا الحدود الصربية، حيث كانت الشرطة في انتظارهم.
"واقع البلدان، والبيروقراطية، وحالات الفساد أثرت على اللاجئين وجعلتهم يعيشون ظروفاً أصعب"، بحسب جرار، وتحديداً في صربيا، فعمليات التسجيل كانت طويلة جداً، وكانت هناك إمكانيات شراء أوراق التسجيل المزورة من العصابات المتحالفة مع الشرطة من خارج المخيمات، وهي عبارة عن أوراق "طرد".
ويُكمل جرار رحلته: "بعد أيام في مخيمات أشبه بالمعتقلات، تحركت القافلة مرة أخرى، وما إن وصلنا بلغراد حتى تسابق علينا السائقون والمهربون، كان من الصعب علينا تمييز الصالح من المحتال، فكلهم في نهاية الأمر يريدون نقودنا أو ما تبقى منها".
قصص مرعبة
يقول المخرج الفلسطيني: "لقد وثقت قصصاً مرعبة، سردها الناس، تخبر عن عمق المأساة الإنسانية التي تعرض لها اللاجئون، مثل حكاية أيمن الذي هاجمته عصابة أفغانية مسلحة بالسكاكين في جزيرة ميتيليني باليونان، وضربوه وسرقوا كل شئ معه".
أما في صربيا فقد سجّل خالد، القصص المرعبة عن سائقي التاكسي الذين قال إنهم "يأخدون اللاجئين إلى منطقة معزولة، لتأتي عصابة بالاتفاق مع السائق وتنهب ما تبقى من مال وعتاد وأمتعة، تحت تهديد السكاكين".
ووفق المخرج "عانى اللاجئون من وجود قوارب يقودها ملثمون مسلحون كانوا يحاولون إغراقهم"، وهو ما حاول تصويره في ميناء اليونان، لكنهم اكتشفوا وجوده وطاردوه، غير أنه سجل شهادت الذين تعرضوا لتجارب مشابهة.
واستطاع جرار تصوير أكثر من ٤٥ ساعة "في ظروف غاية الصعوبة"، وكانت مسألة نفاذ شحن بطاريات الكاميرا الخاصة به مشكلة حقيقة استعان بها بجهازه الحديث (الايفون)، وفي مرات أخرى "قدم رشاوى لرجال الشرطة حتى يتمكن من شحن البطارية ليستعيد التصوير".
نريد حرية
ويؤكد جرار أن التعامل مع اللاجئين في هنغاريا، على سبيل المثال، كان يتصف بإزدواجية، "فأمام عدسات المصورين ووسائل الإعلام كان التعامل إنسانياً، لكن بعد أن يركب اللاجئون حافلات الشرطة يظهر الوجه القبيح لرجال الأمن هناك؛ حيث الاحتجاز في الحافلة لأكثر من ١٢ ساعة، دون السماح لأحد بالخروج، وسط البرد القارس. والمعاناة".
ويضيف: "بعد كل التعب والمشقة نمنا في مخيم مظلم بلا كهرباء، لم نر أي شئ إلا عن طريق اللمس، نمنا رغم البرد من شدة التعب، لنستيقظ عند الثامنة صباحاً، لنكتشف مصيبتنا الكبرى حيث المكان البارد الذي يفتقد للحمامات، والقذارة المنتشرة، فبدا المكان مأساوياً بكل المقاييس، وهو ما دفعنا لإعلان إضراب عن الطعام، لكن الشرطة حاصرتنا وبدأت بتهديدنا بعلب الغاز، وبعدها وعدونا بتحسين ظروف احتجازنا لنتفاجأ بأن الأكل الذي قُدم لنا كان فاسدا في غالبيته".
"نظمنا مسيرة احتجاج، وطالبنا بترحيلنا، جلسنا أمام بوابة المخيم في اعتصام كبير، عندها جاؤوا بأكثر من ٢٥ شرطياً مدججين بالعصي وغاز الفلفل، فشرعنا بالغناء: "بدنا حرية"، فخف غضبهم، وبعد ثلاثة أيام نقلونا للحدود النمساوية.
الكاميرا مرة أخرى!
وصل جرار مع اللاجئين إلى الحدود النمساوية، وتحديدا مدينة "هيجي شالوم"، حيث استقبلهم بعض المتطوعين الذين ودعوهم في آخر نقطة في هنغاريا، وزعوا عليهم الملابس والماء وبعض الساندوتشات، وفي هذه الأثناء هجم شرطي هنغاري عليه، وسحب منه الكاميرا، وطلب منه مسح المواد المصورة، فما كان منه إلا أن حاول التمويه، وبعد إصرار الشرطي رفض جرار حذف المواد المصورة، فأخذ يصرخ طالباً الصليب الأحمر، وفعلاً أمام إصراره تراجع الشرطي عن طلبه، وبقيت المواد المصورة محفوظة.
أكمل جرار المشوار ومن معه، ومشوا مسافة ٤ كيلومترات لعبور الحدود النمساوية، وصلوا إلى محطة القطار في مدينة "جور" عند تلك الحدود، ومن ثم ركبوا إلى فيينا، محاولين اعتلاء آخر قطار إلى ميونخ، غير أنهم فشلوا في ذلك لاكتظاظه، وعدم توفر أماكن شاغرة، فذهبوا إلى مقر خاص بالمتطوعين، ليجدوا هناك أكثر من 700 مهاجر.
وبعد نوم استمر لأربع ساعات، استقلوا الحافلة الأخيرة التي تتبع الجيش السويسري، ليتم نقلهم إلى محطة القطار المتجه إلى "سالسبورغ"، برفقة الشرطة الألمانية، ثم ميونخ، ومن ثم إلى "دورتموند"، حيث صفق الألمان لهم، لأكثر من ١٥ دقيقة متواصلة، ورحبوا بهم بعشاء ساخن "بعد ٨ أيام من الجوع والبرد القارس".
وما إن استكملوا الإجراءات، ونال المخرج جرار قسطاً من الراحة، استيقظ ليجد نفسه إلى جانب الحاجة نادرة، وابنتها "منى" التي أصبحت تفكر بلم شمل ابنها وزوجها، وكذلك ابنها الذي يرغب في لم شمل عائلته أيضاً، ويوسف زوج بنتها الثانية الذي ينتظر هو الآخر الوقت المناسب لكي يلم شمل عائلته الموزعة في لبنان، وسوريا، وتركيا.
ليبدو أنها رحلة لم تنته بعد لجميع من وصلوا بعد تجربة شاقة، ترافقت فيها الحياة مع الموت، ليجلس جرار متأملاً الكاميرا التي وثقت كل ذلك، ومستعداً للخروج بفيلم كان هو ذاته جزء رئيسياً من قصة عاشها، ليكون العالم كله شاهداً عليها.