غزة - حامد جاد ومحاسن أصرف
لم تخل منطقة من مناطق قطاع غزة إلا وأصابتها آلة حرب الاحتلال مخلفة أكواماً من الركام وأرضاً محروقة الذكريات، فهنا كان منزل جاري الذي أصبح أشبه بأعواد ثقاب محترقة مقطعة الأوصال، وهناك على امتداد جانبي الشارع بنايات أصبحت تلالاً من الحجارة، وهذه الأبراج السكنية شوهت معالمها بعد قصف طوابقها العلوية، هكذا بدا المشهد الأول الذي تراه بمجرد أن تخرج من منزلك خلال سويعات معلنة من هدنة مفترضة خرقتها في كل مرة قذائف الاحتلال الجوية والبرية والبحرية، موقعة عشرات الشهداء في كل خرق للتهدئة الوهمية.
تواصل سيرك راجلاً أو محمولاً لتشاهد بأم عينك ما تناقلته الإذاعات المحلية عن المناطق المنكوبة المهجر سكانها، فتقع عينك هناك على مشهد آخر من فصول مجازر الاحتلال لتكتشف أن ما تناقلته وسائل الإعلام بالرغم من الجهود الجبارة التي بذلتها طواقمها غيض من فيض، من هول مشهد الدمار الذي أتى على منطقة سكنية بأكملها وحولها إلى أرض محروقة، كمنطقة الشجاعية شرق مدينة غزة التي دمر الاحتلال جل بيوتها وجعلها كومة ركام، وما تبقى من جدران مبانيها السكنية الآيلة للسقوط والمتهالكة اتشح بلون أسود مزركش بثقوب خلفتها قذائف مدفعية الاحتلال ونيران أعيرتها الثقيلة.
تنتقل إلى شارع آخر في المنطقة نفسها فتعجز مركبتك عن مواصلة السير في هذا الشارع الذي حولته دبابات الاحتلال إلى أخاديد غائرة تكسوها الحجارة المتناثرة من المباني المقصوفة وأعمدة الكهرباء وجذوع الاشجار المترامية، فتجد نفسك تقف وسط ساحة حرب، وفجأة تقودك قدماك إلى أحد أزقة االشارع صوب صوت صراخ منبعث من هناك وسط رائحة تزكم الأنوف، فتشاهد مجموعة من الشبان ينبشون أسفل الركام وهم يصرخون "جثة شهيد، جثة شهيد" لم يبد منها سوى أصابع يده متدلية من بين ثنايا الركام، ثم تواصل سيرك في الزقاق نفسه فيستوقفك مشهد عائلة تقف فوق أنقاض منزلها المدمر في محاولة منها لانتشال ما يمكن انتشاله من أغطية أو فراش ممزق يعينهم على قسوة الحياة التي يعيشونها في أماكن النزوح المختلفة التي لجأوا إليها.
عربات الكرو والتكتك لإخلاء المقصوف
تصل إلى الشارع الرئيسي لتشاهد مزيداً من مظاهر اللجوء وعربات الكارو والتكاتك تصطف قبالة ركام المنازل محملة بما قذفه القصف من محتويات البيوت المدمرة، كأدوات منزلية مشوهة المعالم، أو فراش ممزق ومتعلقات انتشلوها ليعودوا بها إلى مراكز الإيواء، وسط شعور بالقهر والحسرة التي بدت على وجوههم.
المواطن محمد البلتاجي الذي ينسب لعائلته اسم شارع شهد أسوأ أشكال الدمار في منطقة الشجاعية، يقول: "كما ترى، حالنا يرثى لها، ماذا تفعل هذه المرأة في مكنسة كهربائية انتشلتها من تحت ركام منزلها؟ فلم يعد لديها منزل لتنظفه، ولكن الفراش الذي يحمله زوجها على عربة التكتك قد يفيد عائلته لأشهر أو سنوات قادمة، لا أحد يعلم إلى متي ستمتد مصيبتنا، وإلى متى سنظل مشردين دون مأوى".
دكاكين ومرائب سيارات لإيواء المشردين
لم يجد عشرات الآلاف من النازحين بعد أن تم إشغال كافة مدارس وكالة الغوث بأقرانهم من مشردي المناطق المختلفة، ما من مكان أمامهم سوى الاحتماء داخل الدكاكين أو مرائب السيارات في الطوابق السفلية للأبراج السكنية، فالخيارات محدودة إما أن تقبل بهذه الأماكن أو تفترش أرض الشارع والساحات العامة كما فعل غيرك ممن وصلوا متأخرين إلى أماكن النزوح ولم يجدوا لهم مكاناً.
المواطن رامي زيارة وأسرته المؤلفة من سبعة أفراد، رحل برفقة شقيقه وعائلته إلى برج الجوهرة وسط مدينة غزة آملاً أن يجد لدى صديقه أحد مالكي البرج، شقة سكنية تأوي الأسرتين لكنه لم يجد سوى دكان لم يتردد لحظة في قبولها، بل اعتبر نفسه فيما بعد أوفر حظاً مقارنة مع غيره من عشرات العائلات، إن لم تكن المئات التي افترشت أرض كراج المبنى نفسه.
ويقول رامي: "مضى على وجودي هنا أكثر من أسبوعين ولا أعلم كم سأمكث بعد أن زرت منزلي خلال فترة الهدنة ووجدته غير مؤهل للسكن، فليس لدي أي بديل آخر".
واعتبر رامي أن عدم شعور أطفاله بالخوف كان أفضل ما حدث له خلال العدوان على غزة، مشيراً إلى أن ابنته إسلام ثلاث سنوات، تفضل النوم قرب عتبة الدكان كي تراقبلعدة ساعات قبل أن تخلد للنوم مشهد الصواريخ والقذائف والقنابل المضيئة التي تطلقها الطائرات.
أما أسوأ ما واجهه بعد خسارته منزله، فاعتبر أن انتظاره لوجبة الطعام التي تقدمها أسر أو مؤسسات إغاثية للنازحين كان أسوأ ما واجهه في ظل فقره المدقع وعدم قدرته على إطعام أبنائه.
جهود إغاثية خجولة
نشطت خلال فترة الحرب العديد من المؤسسات الإغاثية المحلية والأجنبية في تقديم المساعدات الإغاثية الضرورية واللازمة لوقاية النازحين وتجنيبهم خطر الأوبئة الناجمة عن افتقار أماكن الإيواء للشروط الصحية ومستلزمات النظافة الشخصية، حيث كشف أحمد أبو راس، مدير المكتب الفني للجنة القطرية لإعادة إعمار غزة، النقاب عن أن اللجنة عملت منذ مطلع الأسبوع الثالث للحرب على تزويد مراكز الإيواء بصهاريج مياه تعمل على الطاقة الشمسية لتوفير مياه للاستحمام كجزء من الجهود المبذولة لمعالجة الأمراض الناشئة عن اكتظاظ الغرف الصفية في تلك المراكز، إضافة إلى تزويد النازحين بمستلزمات الصحة والنظافة الشخصية.
وبين أن هذه المساعدات شكلت جزءاً من قيمة المنحة الإغاثية التي قدمتها قطر بقيمة 10 ملايين دولار على دفعتين، وتم من خلالها توزيع مساعدات نقدية على كل أسرة من أصحاب البيوت المدمرة بواقع ألف دولار لكل أسرة ممن شملتهم قوائم المتضررين الأوائل من هذه الحرب.
وأشار إلى أن العديد من المؤسسات والهيئات الإغاثية ما زالت منذ بداية الحرب تعمل على تقديم خدمات إنسانية متنوعة تستهدف في جلها التخفيف عن أسر النازحين، من خلال توفير سلات غذائية وأدوية ووجبات غذائية جاهزة ومعونات صحية ومعيشية، كتوفير البطانيات والفرشات ومستلزمات إقامة هذه الأسر المهجرة، ومنها من عمل على إقامة عيادات ميدانية في مراكز الإيواء.
غزة منطقة منكوبة
طالت آثار وتداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كافة الجوانب الحياتية للمواطنين، بمن فيهم من نجا من الأضرار المباشرة لعمليات القصف، فلم ينج أحد مع دخول الحرب البرية في اليوم الحادي عشر للعدوان من تبعات ضرب قطاعي المياه والكهرباء، فمع صبيحة اليوم الثاني لعيد الفطر، قصف سلاح جو الاحتلال محطة غزة لتوليد الكهرباء، وبات نحو 80% من سكان قطاع غزة دون كهرباء أو مياه، باستثناء قلة منهم تمكنت بشق الأنفس من الحصول على مياه الشرب بمعدل مرة كل أربعة أيام، وذلك عبر الاستعانة بتشغيل مولدات الكهرباء خلال ساعتين أو أقل من وصول المياه لمناطقهم، كي يتمكنوا من تعبئة بضعة لترات في خزنات المياه التي تعلو أسطح منازلهم، بينما الغالبية العظمى كانت تمضى عدة ساعات في البحث عن تعبئة جالون مياه من المستشفيات أو محطات التعبئة التي تجوب خزناتها المحمولة شوارع غزة من حين لآخر.
ودفع هذا الأمر بسلطة المياه الفلسطينية ومصلحة مياه بلديات الساحل، لإعلان قطاع غزة منطقة منكوبة مائياً وبيئياً بسبب عجزها شبه التام عن تقديم خدمات المياه ومعالجة المياه العادمة لسكان القطاع، مطالبة كافة مؤسسات المجتمع الدولي بالتحرك الفوري والعاجل لمواجهة الأزمة الخطيرة، وتفادي وقوع الكارثة في قطاع المياه من جراء استمرار الحرب الإسرائيلية المتواصلة على القطاع.
وبينت أن انقطاع التيار الكهربائي بشكل تام عن مجمل مناطق قطاع غزة وعن جميع مرافق المياه والصرف الصحي، بالإضافة إلى ذلك نفاد مخزون الوقود لدى مصلحة المياه، أدى إلى عدم قدرة المصلحة على القيام بمسؤولياتها وسبب شللاً شبه تام في توفير مياه الشرب للسكان، وصعوبة تزويد المرافق الصحية كالمستشفيات والعيادات ومراكز الإيواء بخدمات المياه.
تهكمات فيسبوكية
مع اشتداد وطأة القصف وارتفاع عدد المجازر التي ارتكبها الاحتلال بحق أكثر من سبعين أسرة وسط صمت عربي مطبق، لوحظت في تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي، حالة من الاحتقان والاستياء من مواقف الأنظمة العربية، فكتب الصحافي محمد جودة على صفحته تحت عنوان (غزة تحترق): "مصر يا أم الدنيا... هيه غزة مش من الدنيا".
أما إسماعيل عبد العال: فكتب يقول: "والله بدها أكبر زغروتة في التاريخ، خادم الحرمين يدين الحرب على غزة، والله بس لسه بدري شوي... بنقدر نقول أنه برأ ذمته، بالذات أنه قال اللهم إني بلغت فاشهد وإحنا للأمانة بنشهد أنه بلغ... يمكن هلقيت اليهود يرجعو لحدود ال 47 اطمئنوا يا أهل غزة".
أما إيمان شنن الناشطة المجتمعية، فكتبت تقول: "غزة اليوم تذهب إلى سماءٍ غير سمائكم، تطير إلى الأعالي بعيداً عن أرضكم، غزة في غنى عن شعاراتكم، غزة لنا وليست لكم، غزة ليست للمرتزقة، وغزه ليست للمؤسسات الدولية أو بلاداً فقط، عربية في خانة الهوية تسترزق من وراء الكوارث، غزة عامرة بأهلها بشبابها بشيبها بنسائها بأطفالها بحجارتها التي تناثرت من بيوتها، بجراحها بدمائها، غزة اليوم ستلفظ كل من لفَظَها، سترمي من رماها وتحذف من حَذفها، وجميع من أدار ظهره لها ذاهبٌ إلى الجحيم، العدوان على غزة كان اختباراً قاسياً علينا، وسيقف كل الفاشلين الراسبين بانتظار دورهم إلى مزبلة التاريخ، سنغير المناهج الدراسية ولن نغني للعروبة الأبية".
أما مراسل بي بي سي، الصحفي شهدي الكاشف، فكتب يقول: "كان نفسي أنو قيادة شعبنا الفلسطيني اللي في (رام الله- قطر- بيروت) كلها بلا استثناء أن تكون بيننا هنا في غزة خلال هذه الحرب، وأن يعيشوا لحظة بلحظة ما عاشه شعبهم هنا، وعيب إذا حدا في غزة ساعتها اشتكى لو طالت هذه الحرب كمان سنة, آآخ بس لو كنتم بيننا أنتم وأولادكم ونسائكم وأمهاتكم وآباؤكم واحفادكم".
الصحفي ياسر أبو هين الذي استشهد والده وأبناء شقيقيه ودمر منزل عائلته كتب يقول: "أبحث عن حزني وأنيني، أبحث عن أيامي، أبحث عن آهات سنيني أبحث عن أحلامي، من جرد سيف عذاباتي؟ من أشعل نار جراحاتي؟ من دمر أيامي؟
كان لي بيت هناك وأحلى ذكريات، أحلام وشباب وأصداء ضحكات".
خزاعة.. حكاية الدم والنار
الحياة لم تعد كما كانت، رائحة الموت تتسلل إليك من كل اتجاه، ووحدها الدماء النازفة والمتجمدة على الطرقات كانت الشاهدة على ما جرى خلال أيام العدوان البري على بلدة خزاعة شرق خان يونس، مع كل خطوة سارت بها مراسلة "الحدث"، تولدت لديها حكاية رُواتها ممن عاشوا مأساة الحرب والنزوح وبدأوا بالعودة إلى بلدتهم المنكوبة مع أولى ساعات الهدنة المعلنة لمدة 72 ساعة منذ الثامنة من صباح الثلاثاء الماضي.
وهج السماء أغرق وجوه المارة عرقاً، لكن هؤلاء الفتية اغرورقت عيونهم دمعا،ً ولهجت ألسنتهم "حسبنا الله ونعم الوكيل"، لتوهم أخرجوا من تحت الأنقاض شهيدهم أحمد سالم قديح (18عاماً) بعد أن رزح عشرة أيام، كانت كافية لأن يتحلل جسده وتُشوه معالم وجهه، يقول شقيقه: "لم تستطع طواقم الإسعاف ولا الصليب الأحمر الوصول إلى الشهيد وانتشاله"، مؤكداً أن المزيد من جثامين الشهداء لا زالت ترقد تحت الأنقاض بانتظار آليات الدفاع المدني لانتشالهم.
فصول الموت التي عايشتها خزاعة لم تنل من أرواح سُكانها المدنيين فقط، وإنما وُزع الموت على الشجر فتحولت جذوره إلى رماد في باطن الأرض بفعل نيران القذائف، كما نال الموت من الطيور والحيوانات ودور العبادة، إذ واجه الجميع المصير نفسه. على أنقاض منزلها كانت تقف نهاد أحمد النجار (35عاماً)، لم تجد من معالمه شيئاً، جميعه سوّي بالأرض، تقول السيدة: "خرجنا تحت نيران القذائف فلم نتمكن من حمل أي من متاعنا".
في حارة عزاتة، استوقفنا الطفل عبد الرحمن النجار (5 سنوات)، ما إن أشارت إليه والدته إلى بيتهم المدمر حتى ضرب بكفيه الصغيرين على وجهه قائلاً: "بيتنا تدمر يا ماما، وين غرفتي وألعابي؟" ثم اعتلى أكوام الركام وأخذ يبحث بأظافره عمّا فقد، لكنه لم يجد إلا حسرةً صبغت ملامح وجهه وانفجر بكاءً غير مصدق أن مكان لهوه وسكنه قد دُمر وأصبح بلا مأوى.
في حي أبو رجيلة في البلدة، لم يكن الأمر مُغايراً، كثير من الموت والدمار رغم شراسة المقاومة، إذ شاهدنا بقايا لعتاد جنود إسرائيليين وبزّات عسكرية تُشير إلى وقوع قتلى في صفوفهم، كما شاهدنا براميل المتفجرات التي أُكيلت على سكان البلدة لإبادتهم.
حسن أبو رجيلة كان شاهداً على المأساة، ونجا من الموت بقدرة الله، يقول: "اختبأنا في بيت قريبي الحاج حلمي، كنا 300 شخص، نساء وأطفال وشيوخ، ومع اشتداد قصف المدفعية بدأنا بالنزوح، ومع آخر موجات النزوح أصيب المنزل وسقط على رؤوس من فيه"، ويُتابع بحرقة: "استشهد الحاج حلمي وابنه فيما بقيت ابنته ناهد التي تُعاني من مرض نفسي تُصارع الحياة تحت الأنقاض ولا يُعرف مصيرها حتى الآن".
أطفال غزة يبحثون عن الأمن والأمل في ردهات الملاجئ
بعد انقضاء يومين من التهدئة الإنسانية المعلنة لـ 72 ساعة، لم تجد ديما حلس (14عاماً) سبيلاً للشعور ببعض الأمن إلا في أروقة مجمع الشفاء الطبي، بيت عائلتها دُمر مع مئات البيوت في حي الشجاعية، وتبدل ملهاها فأصبح ممرات المستشفى، وجدتها تجيء وتذهب وكأنها تبحث عن شيء، لم تُخبر أحداً عنه، علّها بحثت عن الأمل فلم تجده فتوارت خلف الخيمة تُلملم طفولتها.
بالقرب من قسم الولادة، كنا نسمع صرخات الأطفال الخارجين لتوهم للحياة من أرحام أمهاتهم، أخبرتني إحدى القابلات أن إحداهن وضعت مولوداً ذكراً، لكن علامات البهجة الممزوجة بالدموع استفزتني لمعرفة السبب، فكان أن تلك الأم فقدت زوجها وثلاثة من أبنائها شهداء، وكأن الله يُعوضها ألم الفقد.
وفي ساحة المستشفى أخبرنا الناطق الإعلامي باسم وزارة الصحة، د. أشرف القدرة أن عدد المواليد أثناء ثلاثين يوماً من العدوان على غزة جاوز الـ 4500 مولود مؤكداً أن الحياة في غزة تغلب الموت.
قبل الخروج من المستشفى جاء فريق "حملة فكر بغيرك" يتفقد حاجة النازحين، ويقدم ما استطاع توفيره من احتياجات أساسية لهم، بعض من حفاضات الأطفال، واحتياجات النساء اللاتي خرجن من بيوتهن بملابسهن، ووجبات غذائية وألعاباً للأطفال وغيرها، إحدى المستفيدات من الحملة كانت "أميرة خطاب" من المحافظة الوسطى في القطاع، رضيعة لم تتجاوز شهرها الرابع، فقدت كل أسرتها في استهداف لمنزلها وبقيت تُصارع الحياة وحيدة مع جدها.
وفي قسم الأمراض الباطنية كان الجد جمال عبد ربه يحتضن حفيدته "بركة" ويحاول أن يبثها الأمان بعد أن فقدت والدها وأشقاءها في قصف مدفعي على منزلهم في محافظة الشمال، "بركة" ابنة السنوات الخمسة بدت شاحبة تنتظر أن تفتح والدتها عيناها لتبصر الدنيا من خلالها، لكن الأم وحسب إفادة الجد فقدت بصرها وحتى الآن لا تعرف أن زوجها وأبناءها قد استشهدوا ولم يبقَ لها إلا "بركة".
إعلان الحياة بعد الموت
في المستشفى الكويتي بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، تجدد الأمل لدى عائلة ضهير التي استهدفها الاحتلال نهاية يوليو الماضي ليستشهد جل أفراد العائلة، سوى اثنين عادا إلى الحياة بأعجوبة، مكرم ابنة الـ 22 عاماً، وشقيقها سليمان ذو الشهرين.
عادت مكرم إلى الحياة بعد غيبوبة استمرت يوماً كاملاً جراء إصابة في الدماغ تعرضت لها إثر سقوطها من درج المنزل أثناء قصفه. الفتاة مازالت غير مدركة لما حدث، وترفض تصديق المأساة التي تعرضت لها عائلتها بينما كانت آمنة في بيتها شرق مدينة رفح، بينما سليمان فقد صدم صراخه الأطباء في المستشفى، فقد جاء بإصابة في الرأس والقدم، لم يُحرك على إثرها عضواً في جسده فقرروا أنه "الشهيد الرضيع" وبعد أن وضعوه داخل الكفن صرخ أنه مازال حياً.
فيما تحتضن جيهان أبو جبر بذراعيها الطفل "يامن" ذا السنوات الأربع، هي ليست أمه، هي فقط ابنة عم والده، لكنها أضحت المعيلة والأنيسة لوحدته بعد استشهاد عائلته جميعها فجر ثاني أيام عيد الفطر، حسب قولها، تؤكد السيدة أن 22 فرداً من أبناء عائلتها استشهدوا في القصف على منزل أحمد أبو جبر، جميعهم كانوا أشلاءً تطايرت بفعل القصف العنيف، وتُضيف أنهم فقدوا الأثر للطفل "يامن" ولم يجدوا دليلاً على استشهاده كبقية إخوته، ما دعاها للبحث عنه بين جثث مجهولي الهوية لكنها لم تجده في مستشفيات وسط القطاع القريبة من مدينة البريج، وبعد أربعة أيام وجدته بالصدفة على سرير العلاج في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، وقد عُلق على سريره يافطة مجهول الهوية، تقول السيدة: "لن أتخلى عنه ما دمت حية".
طوابير الماء والخبز سمة محافظات القطاع في العدوان
في كل مكان تمر به في أرجاء محافظات غزة، تجد أناساً تراصوا في طوابير لتلبية احتياجاتهم الأساسية، في حي الشيخ ناصر بمدينة خان يونس جنوب القطاع، تسمر أحمد ومعتز وعلي وجمع آخر من الشباب والفتية حول خزانات المياه المحلاة المتواجدة عند جامع المصطفى في الحي، كلٌ بانتظار دوره في تعبئة جالونات المياه بعد أن نفذت من خزانات بيوتهم نتيجة انقطاعها لأكثر من أربعة أيام متتالية، "علي" كان أكثر إصراراً على الوصول إلى صنبور المياه، فقد ترك خلفه 15 فرداً نزحوا من بيت حانون بانتظار قطرة ماء يغسلون بها وجوههم ويروون ظمأهم.
بالقرب من مسجد الكتاب والسنة وسط المدينة كان هناك طابورين، أحدهما للنساء والأطفال، والآخر للرجال، الكل يُزاحم من أجل أرغفة خبزٍ يعود بها إلى عائلته، لكنهم أحياناً لا يظفرون بها نتيجة انقطاع التيار الكهربائي وتوقف آليات المخبز عن العمل سويعات قليلة لحين تشغيل المولد الكهربائي.
السيدة أم عمر حسين، وقفت في طابور الخبز لأربع ساعات، وفي النهاية لم تستلم الأرغفة، تقول: "سأعود لأطفالي خاوية اليدين".
فيما يقف أبو خليل في طابور آخر أمام أحد محلات الصرافة، بانتظار دوره لاستلام حوالة مالية من قريبٍ له، ويتسمر الطفل وسام أمام طابور في سوبر ماركت ليحصل على بعض المسليات والمعلبات الغذائية يعود بها إلى أشقائه، ويتجمع آخرون أمام محال المأكولات الشعبية والوجبات السريعة.
وبينما ينشغل الكثير من الناس بأخذ دورهم في طوابير الماء والطعام، ينتظر آخرون في ساحات المستشفيات بانتظار وصول جثامين من تحت الأنقاض، علها تكون لأبنائهم أو أقاربهم، فيتمكنون من إلقاء نظرة وداع، والحصول على تصريح لدفن شهيدهم، واحدة من هؤلاء كانت زوجة "علي عصفور"، استشهد منذ عشرة أيام ولم تتمكن طواقم الإسعافي من إخلاء جثته إلى المستشفى، انتشل اليوم وقد تحللت بعض أعضائه.
معاناة نزوح 2014
أعادت موجات نزوح الفلسطينيين من بيوتهم إلى مراكز الإيواء في مدارس الأونروا إلى الأذهان أحداث هجرة الـ48، ومشاهد التغريبة الفلسطينية، فعلى باب أحد فصول مدرسة خان يونس الابتدائية المشتركة جنوبي القطاع، يصطف عشرات الأفراد في طابور طويل لاستلام معونة الصباح من أرغفة الخبز وبعض المعلبات ليقتاتوا عليها، وفي الساحات لا يجد الأطفال سبيلاً لنسيان ما اقترفته آلة الدمار الإسرائيلي بحقهم إلا اللهو، حتى لو لم تتوفر مقوماته من ألعاب، فهم يجوبون الساحات جرياً وتعلو صرخاتهم علها تطغى على أزيز الطائرات. محمد فتى أنهى عامه التاسع، لم يعد له بيت يسكنه وأشقاؤه، لكنه مازال يمرح ويثق أن والده سيُعيد بناء البيت وسينعم بحياة آمنة.
وفي ساعات ظهر الأربعاء أخرست صرخات أم الطفل "أحمد القايض" ضجيج الحياة في إحدى مدارس الإيواء بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، كانت تنتظر بلهفة أن يأتيها فلذة كبدها حياً باسماً، لكنه أتى مسجى على النعش ليلحق بشقيقته شيماء، ويُشعل ألم الفراق في قلب والدته، تقول إحدى قريباته والدموع تنهمر من مقلتيها: "فقدناه منذ ثلاثة عشر يوماً أثناء قصف المنزل، ولم نعلم باستشهاده إلا اليوم".
وفي مدرسةٍ أخرى لم تتمكن الطفلة "هدى العمور" من الحصول على دور لدخول دورة المياه إلا بعد ثلاث ساعات، أعيت جسدها النحيل، لكن ما يزيد معاناتها نفاذ خزانات المياه وانعدام خدمات النظافة داخل المدارس واكتظاظ الفصول بالمشردين، حيث يزيدون عن الأربعين فرداً في الفصل الواحد، ما يُعرضهم للأمراض.
ومثلت مدارس الأونروا في قطاع غزة ملاجئ لما يزيد عن (475000) فلسطيني أُجبروا على ترك بيوتهم بفعل القصف العنيف والمستمر لها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ويقول المواطنون أنهم يعانون من عدم توفير أدنى مقومات الحياة لهم، ما أدى إلى انتشار الأمراض الجلدية بينهم والنزلات المعوية، وخاصة لدى الأطفال.