عندما يفقد كلا طرفي الصراع الثقة كلٌّ بتهديدات الطرف الآخر؛ تسقط القدرة على تثبيت مفاهيم الرَّدْع؛ وتسقط معها معادلة الرَّدع التي كانت قائمة؛ وبالتالي تبدأ الحاجة الى إعادة التأكيد على تلك المفاهيم مرَّة تلو مرَّة؛ وهذا هو جوهر النَّظرة الإسرائيلية الى العلاقة مع قطاع غزَّة طوال السنوات السبع الماضية؛ وهكذا كان سلوكها تجاهه عبر ثلاثة حروب شنَّتها حتَّى الآن منذ عام 2008.
تثبيت وتعزيز مفهوم الرَّدع؛ والإستطلاع بالنَّار للقدرات العسكرية والصاروخية للفصائل الفلسطينية: ربما هذا ما أرادت إسرائيل تحقيقه من خلال شنها الحرب على غزَّة؛ عوَضاً عن توجيهها ضربة قويَّة لقدرات تلك الفصائل.
لكن حتى الآن؛ وبغضِّ النَّظر عن السياقات التي يتخذها منحى التَّوتر القائم في العلاقة مع قطاع غزَّة؛ فإنَّ معادلة الرَّدْع لم تتحقَّقْ بالشكل الذي أرادته إسرائيل؛ وهذا دفع بإسرائيل للتفكير نحو الذَّهاب باتِّجاه الحسم؛ لكنَّ الحسم في هذه الحرب مُكْلِف؛ وقد تجد إسرائيل نفسها مضطرة لدفع تلك الكلفة؛ ولكن ماذا عن الأوضاع التي سوف تنشأ خلال وبعد دفع ثمن تلك الكلفة ؟ وهل ستدفعها إسرائيل مرَّة واحدة وينتهي الأمر ؟ أم أنَّ دفع كلفة الحسم سوف تستمر لفترة طويلة؛ مع ما يحمله ذلك من مخاطر وأوضاع مفتوحة على كل الإحتمالات محليَّاً وإقليمياً على الأقل ؟ وهذا التصور بالمناسبة هو الذي قدَّمه الجيش الإسرائيلي للمجلس الوزاري المصغَّر مؤخَّراً؛ وحول ذلك يدور النِّقاش صاخباً في إسرائيل.
المُلاحظ حتى الآن وعلى خلاف كثيرٍ من الحروب والعمليات العسكرية التي خاضتها إسرائيل؛ فإنَّها لم تضع لهذه العملية أهدافاً محددة وموصوفة بدقة ومرهونة بفترة زمنية وقابلة للقياس؛ أوعنواناً كبيراً تندرج تحته عناوين تفصيلية وجزئية كما جرت العادة دائماً؛ هذا معناه : أنَّ إسرائيل لا تريد أنْ تُقيِّدْ حركتها بأهداف محددة؛ لأنَّ مقدار تحقيق الأهداف هو معيار النَّصر والهزيمة وهو معيار النجاح أو الإخفاق؛ وربما لا تريد إسرائيل أن تكرر ما حصل بشكل أو بآخر في حرب تموز عام 2006 مع حزب الله في جنوب لبنان؛ حيث وضعت أهدافاً كبيرة ثم إضطرت في النهاية للتراجع عن تحقيقها حينذاك؛ ومن الملاحظ كذلك أنَّ إسرائيل كانت على الدوام تأخذ فرصتها من الوقت والتغطية أو الصمت الدولي لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأهداف؛ قبل أنْ تسمح لنفسها بالتعاطي مع مبادرات الوساطة؛ وهذا ما لم يتحقق هذه المرَّة بالشكل الذي أرادته إسرائيل؛ مع العلم أنَّها أُعطِيَت تلك الفرصة طيلة عشرة أيَّام كاملة من بداية الحرب.
بالإجمال تؤكِّد الحرب الأخيرة على أحد المعضلات الإستراتيجيَّة التي ستواجهها إسرائيل في المستقبل وربما تكون هذه أهم إستخلاصاتها مما جرى حتَّى الآن؛ فمع اضمحلال إحتمالات أنْ تدفع الأخيرة ثمن ذلك الحل الشامل فيما يتعلَّق بالأرض وبمستقبل الإستيطان، وبالحدود؛ وبالقدس؛ وبحل مشكلة الَّلاجئين؛ وبمسألة الدَّولة الفلسطينية المستقلَّة؛ وبمستقبل قطاع غزَّة ضمن تلك السياقات؛ فإنَّ البديل عن ذلك سوف يكون مواجهات إستنزافيَّة طويلة الأمد؛ وربما أنَّ أحد المعضلات التي تواجهها إسرائيل الآن هو أنَّها مضطرة لأن تنظر الى حربها على قطاع غزَّة ليس بعينيها فحسب؛ بل بأعين قوىً إقليمية؛ وبِعَيْنَيِ عدوها في الشمال المتمثِّل بحزب الله؛ وغيره من القوى المعادية لها في المحيط القريب والبعيد؛ وهذا بحدِّ ذاته يمثِّل أحد بواعث ومظاهر القلق الذي يعتري إسرائيل اليوم من المستقبل؛ فعندما تسقط أو توشك أنْ تسقط معادلة الرَّدع تجاه قطاع غزَّة ذو الوزن النِّسبي المحدود على مستوى العمق الجغرافي والقدرات؛ فكيف سيكون الأمر مع الآخرين الذين يمتلكون عمقاً جغرافياً وجيوسياسياً ولوجستيَّاً وقدرات أكبر ؟!.