عندما انطلقت الثورة في ال (1965) كان آباؤكم وأمهاتكم إما في رحم الغيب، وإما ضيوفاً جُدد على الحياة، الأمر الذي سيتكرر مرة ثانية على معظمكم حينما انطلقت الانتفاضة الأولى (1987)، أما حينما اندلعت الانتفاضة الثانية (2000)، فإن الأصغر منكم كان في بداية طفولته؛ ما يعني أنكم بالمجمل لم تعيشوا تلك التجارب، ولا تعرفون عنها الكثير، إلا ما سمعتموه من الآخرين، أو قرأتم عنه في مكان ما. لذا فإن من واجبنا أن ننقل لكم تجربتنا بكل أمانة وتجرد: بإنجازاتها وخيباتها، بانتصاراتها وهزائمها، بأخطائها وعثراتها، والتحديات التي واجهتها، وهذا ليس درساً في التاريخ، بل لكي تستخلصوا العِبر، وهذا أول شرط للتغيير.
طبعا، من الصعب جدا، اختزال تجربة الكفاح الفلسطيني بما لها وما عليها في مقال واحد، ولا يوجد شخص (مهما علا شأنه) يحق له أن يصدر حكما عليها .. كل ما بوسعنا فعله، هو تسليط الضوء على جوانب معينة، على أن يكمل آخرون المهمة.
لن أحرّضكم على كُره إسرائيل؛ لأن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هي من تفعل ذلك، هي التي تثبت في كل يوم أنها دولة احتلال، وأنها نظام أبارتهايد، تمارس الإرهاب المنظم، بل إنها مجرد مشروع إستيطاني توسعي، لا تتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم، ولا تعبأ بالقانون الدولي، تقتل بكل حقد، تهدم البيوت فوق ساكنيها ثم تجبرهم على دفع تكاليف الهدم !! تلك هي حقيقتها البشعة، فلا تصدقوا من يحاول تجميلها، من يراهن على انتخابات الكنيست، من يتحدث عن التسوية، من يرى فروقات بين قائد وآخر، كلهم مجرمون، أياديهم ملطخة بدماء الأطفال .. وما يُدعى بِ"المجتمع الإسرائيلي"، ليس أكثر من جيش تحركه ماكينة الإعلام الصهيونية، وحين انتخب هذا المجتمع "شارون" و"نتنياهو" لم يفعل ذلك في لحظة جنون استثنائية، انتخبهم لأنه معبأ بالكراهية والعنصرية، حتى ما يسمى باليسار ومعسكر السلام، يختفي تماما في وقت الأزمات ...
الإدارات الإمريكية، من "ترومان"، وحتى "أوباما" لا تبيعنا سوى الوهم، الاتحاد الأوروبي يدفع لنا لإطالة عمر الاحتلال، المجتمع الدولي متواطئ ومنحاز، والضمير العالمي لا يحترم سوى القوي .. العالم الإسلامي أكذوبة، التضامن العربي مجرد شعار لم يعد يصلح حتى لمواضيع الإنشاء، التسوية وحل الدولتين سراب .. ومع أهمية هذه العناوين في العمل السياسي والدبلوماسي؛ إلا أنها يجب أن لا تعنيكم، عليكم أن تؤمنوا بشيء واحد فقط.. الإرادة الشعبية، وأن تعوّلوا فقط على قوة الجماهير ..
في تاريخ ثورتنا الكثير من الأخطاء والخطايا، وأهمها أنها كانت (وما زالت) بلا إستراتيجية واضحة، بلا خطة عمل، لم تمارس النقد الذاتي وإعادة التقييم كما يجب .. المعارضون والتطهريون لم يقدموا سوى الشتائم والاتهامات، لم يتقدموا بأي اقتراح عملي، كان جل همهم تبرئة ذاتهم، وتخوين الآخرين .. الفصائل صارت أهم من القضية، وأعلام الأحزاب تعلو راية الوطن، والشعارات أهم من الشعب، لهذا السبب انقسمنا، ولهذه الأسباب لم نحرز النصر بعد ... لا تقلدونا، ولا تصدقوا كل ما نقول؛ من ترونهم على الشاشات، ومن يملئون الفضاء صراخا مجرد تجار، وكذابون ..
أخطاؤنا لم تكن على مستوى القيادات وحسب؛ الكتّاب والمثقفين ورجال الدين والتجار وحتى العمّال والمزارعين وشوفيرية العمومي كلهم تورطوا بأخطاء تاريخية .. ولكن، أيضاً، كلهم قدموا شهداء وأسرى وتضحيات غالية والكثير من المنجزات ..
الانتفاضة الأولى بدأت رائعة وشعبية وهادرة، لكنها سرعان ما أخذت تتآكل؛ أرهقتها الإضرابات والإغلاقات، والنَّفَس الحزبي والرؤى الضيقة، والعقليات المنغلقة .. معظم أيام الشهر إضرابات .. إضراب تجاري، إضراب الجامعات، المدارس، المؤسسات العامة .. كل فصيل أراد أن يثبت حضوره من خلال فرض الإضراب .. وفي المحصلة، تراجع التعليم، وتكبدنا خسائر فادحة، وما زلنا نكرر نفس الخطأ .. ولا أعرف سببا وجيها لتمسكنا بهذا الشكل العقيم للتعبير عن مواقفنا !!
ستّ سنوات (هي عمر الانتفاضة الأولى) والاحتفالات ممنوعة !! حتى حفلات الخطوبة والزواج وأعياد الميلاد كانت ممنوعة ... ممنوع أي مظهر للفرح !! جيل كامل نشأ في هذه الأجواء غير الطبيعية .. كيف لم نتمكن من المواءمة بين حب الحياة والتمسك بها، وبين حب الأرض والدفاع عنها !!
في آخر سنواتها بدأت بوصلة الانتفاضة بالانحراف، أخذت تركز على "تنظيف الجبهة الداخلية"، وهذا لم يكن أكثر من مجرد شعار خادع للتغطية على الإخفاق في إحراز النصر الذي وعدت به الشعارات الكبيرة .. في النتيجة غرقت المدن والبلدات الفلسطينية في الفوضى الأمنية والقتل على الشبهة .. نفس الخطأ تكرر في انتفاضة الأقصى !! الوقوع في فخ "المهابط الثورية"، والبحث عن إنجازات أسهل وأسرع !!
في انتفاضة الأقصى، كان يخرج من بين جموع المتظاهرين ملثمين مدججين بالسلاح الآلي، ويصوبون نيرانهم على الجنود !! لم تكن الخسائر فقط في من يستشهد على الفور؛ بل في تفريغ الانتفاضة من محتواها الجماهيري، وعسكرتها، ومواجهة العدو في الساحة التي يتمناها، حيث يتفوق علينا مائة ضعف !!
ثم جاءت فصائل أخرى، ورفعت سقف المشاركة الشعبية إلى حد المستحيل، بموجة من العمليات التفجيرية، كانت في أغلبها في المكان الخطأ، وفي الزمان الخطأ، أعطت إسرائيل كل ما ترغب به من سلاح سياسي وإعلامي ارتد علينا، وألحق بنا هزيمة قاسية، والغريب كيف توقفت هذه الموجة فجأة، في وقت غير متوقع !!
جعلنا الأيديولوجية أهم من الإنسان، والشعب في خدمة الحزب والشعار السياسي، ولم نقدر قيمة الحياة، وما زلنا نكرر نفس الخطأ؛ ندفع بشبابنا وأطفالنا إلى أكثر النقاط سخونة، نقدمهم قرابين رخيصة، لنكتب فيهم قصائد الرثاء، ومدح الشهادة، والتغني ببطولاتهم، وتداول صورهم على الفيسبوك، حتى لو كان ثمن ذلك خسارة شبان بعمر الورود، أو التسبب بإعاقات دائمة لهم .. في حين أن الأمر بالنسبة للطرف الآخر لم يكن سوى تدريب للجنود على قنص أهداف متحركة، لا يترتب عليه أي مسؤولية، حتى لو كان قتلا بدم بارد.
تذكروا مقولة أبو جهاد: "إسرائيل دولة قوية مدججة بالسلاح، لكنها قابلة للهزيمة" .. سنهزمها حين نتوحد، ونمتلك رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، وحين نواجهها بالأدوات الصحيحة، فمعركتنا معها طويلة .. سننتصر حين نكف عن الاحتفال بالموت، وحين نعترف بأخطائنا، ونتخلى عن نرجسيتنا المفرطة.
وحين ندرك أن الأهم من إظهار الشجاعة في المواجهات، وقبل الإقبال على الشهادة، أن نتعلم كيف نحب الحياة، وأن نؤمن بأن الإنسان هو حجر الزاوية في العملية النضالية برمتها، وأنه هدفها وأداتها وغايتها ومبتغاها .. الإنسان هو الوطن، هو المستقبل .. هو كل شيء، وقبل أي شيء ..