سمير درويش- رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة
عندما تخلى الرئيس الأسبق حسني مبارك عن الحكم في فبراير ٢٠١١، لم أكن أتمنى إهانته بالمحاكمة والسجن، لكنني كنت من أنصار إيجاد صيغة سياسية تحفظ له كرامته كرئيس سابق، مقابل أن يرد لمصر ما حصل عليه دون حق، مع تحديد إقامته مثلاً، ومنعه من استقبال زائرين واستخدام الهاتف لفترة محددة، مع الاستمرار في محاكمة رجاله، فالرجل في النهاية أحد أبطال حرب أكتوبر. لكن القليلين الذين كانوا يفكرون مثلي ضاعت أصواتهم بين ضجيج هستيري كان يطالب بإعدامه، ساعدهم على التشبث بموقفهم أن بعض أركان حكمه كانوا يستأجرون البلطجية لتقويض الاستقرار وترويع الآمنين. كنت أبني موقفي على أن النظر إلى الخلف لن يخلف إلا الدمار والدماء والتخلف والفقر، بينما يحتاج بناء وطن كمصر أن ينشغل بالمستقبل وأحلامه وطموحاته.
ثلاث سنوات مرت الآن على هذا الحراك الثوري دون أن يضار مبارك وابنيه، والغالبية العظمى من رجاله، سواء من رجال الشرطة أو من رجال الأعمال الذين دخلوا إلى حلبة السياسة فأسدوا الاثنين: المال والسياسة، فقد صدرت أحكام البراءة المتوالية بحق غالبيتهم في قضايا قتل الثوار وقضايا التربح واستغلال النفوذ، إذ ليس من المنطقي أن يترك الجاني أوراقًا تدينه وهو في قمة السلطة، كما لم تسترد مصر أي جزء من أموالها المنهوبة والمهربة إلى بنوك سويسرا، فالجناة كان لديهم وقتٌ كافٍ كي ينقلوا هذه الأموال من اسم إلى اسم، ومن بنك إلى آخر، حتى أصبح الوصول إلى المالك الأصلي مستحيلاً بالفعل.
هذه المحاكمة التي أُطلق عليها اسم “محاكمة القرن” لم تكن سوى لعبة متقنة، معروفة بداياتها ونهاياتها، إذ إن الجناة كيفوا القوانين وستفوا الأوراق ولم يعد هناك ما يدل عليهم، كما أنهم حوكموا- وحكم عليهم- في ظل نظام المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير طنطاوي، وهو نظام تابع لهم، كان يتحكم في كل المؤسسات، ويمنع وصول الأوراق والمستندات والأدلة إلى النيابة، ومن يستمع إلى المقدمة “السياسية” التي بدأ بها المستشار الجليل أحمد رفعت الذي نظر القضية، جلسة النطق بالحكم، يعرف أن المؤسسات المصرية، والأجهزة المسيطرة، رفضت التعاون مع المحكمة وتسليم الأدلة، فلم يعد أمام القاضي إلا تبرئة الجناة حسب ما توفر له من أوراق.
مع هذا كله فإننا لم نستوعب الدرس، ولم نفهم أن التقدم يحتاج إلى غسل القلوب من الغل وترك ما للقضاء للقضاء، كي نتفرغ للعمل والإنتاج من ناحية، ومن ناحية أخرى أن البيروقراطية القديمة في مصر تستطيع أن تفعل ما تشاء لأنها تمتلك خزائن الدولة وأسرارها، تعطيه لمن تشاء وتمنعه عمن تشاء، فهناك من بيننا حتى الآن من يتحدث عن الثأر والدم والقتل والإعدام، وأن الشهداء لن يريحهم إلا هذا، مع أن الشهداء لم يموتوا إلا لتكون مصر بلدًا حرًّا ديمقراطيًّا، فيه تداول سلس للسلطة بين القوى السياسية المتصارعة، وفيه عدالة اجتماعية ناجزة، وكرامة تضمن للفرد حقوقه في مصر وخارجها.
مأساتنا أننا عاطفيون، لهذا لم تنجح ثورتنا وأظنها لن تنجح، فالقوى المضادة في الداخل وجدت وترًا تعزف عليه للبسطاء فصدقوها وساعدوها على ركوب الثورة وقيادتها للوراء في مرحلة حاسمة من تاريخها، والمتربصون في الخارج وجدوا في تصرفاتنا وعاطفيتنا فرصة لتمرير مخططات قديمة- بمساعدة القوى المتحكمة في الداخل- تهدف إلى إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات يصعب السيطرة عليها، و(حل) القضية الفلسطينية بما يسمى تبادل الأراضي والأرض البديلة، بما يضمن استقرار وأمن (إسرائيل)، ونهب الثروات العربية بأبخس الأثمان، دون مقاومة منا، نحن المشغولين بالثأر!