لا تستطيع الحكومة الإسرائيليَّة أو أيَّ أَحدٍ في المؤسَّسة السياسيَّة والأمنيَّة في إسرائيل، أو في العالم، أنْ يدَّعي بأنَّه قد تفاجأ بالأحداث الجارية الآن في الضِّفة الغربية وفي القدس؛ فتلك هي المُخرَجات في ضوءِ المقدِّمات التي أفرزها واقع الإستيطان، وواقع السياسة الإسرائيليَّة تجاه القدس، وسياق التعامل الإسرائيلي فيما يتَّصل بعملية وبمجريات التسوية السياسية مع الفلسطينيين.
ذات مرَّة قام رئيس وزراء إسرائيل الأسبق " إسحق رابين " ومع انطلاق عملية التسوية بُعَيْدَ إعلان المباديء في حديقة البيت الأبيض في واشنطن في الثاني عشر من أيلول عام 1993 بتصنيف الإستيطان في الضِّفة الغربية تحديداً على أنَّه ينقسم إلى صِنفين هما: إستيطانٌ أمني واستيطان سياسي، وأشارَ إلى أنَّ الإستيطان في القدس ومحيطها وفي المرتفعات الجنوبية لهضابِ الضِّفة الغربية وفي غورِ الأردن يُصَنَّفُ ضمن الإستيطان الأمني الذي لا يُمكنُ لإسرائيل مناقشة أمره أو التراجع عنه كونه يمثِّلُ حاجة أمنية واستراتيجية للدفاع عن أمن إسرائيل ووجودِها، فيما يُعتبرُ الإستيطان في شمال الضِّفة الغربية – وفي أغلبه - استيطانٌ سياسي كان الهدف من ورائه هو استخدامه كورقةِ مساومة في أيِّ تسويةٍ سياسية مستقبليَّة.
أيَّاً ما كانَ التقييم لما قاله إسحق رابين عام 1993 ، ولما قدَّمه من تصور تجاه مستقبل الإستيطان؛ إلَّا أنَّ الوقائع على الأرض ومنذ ذلك الحين تؤكِّدُ على أنَّ هذا المنهج في التفكير تجاه الإستيطان هو الذي يحكم سياسة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وإنْ لم يتم التأكيدُ عليه بشكلٍ علني، وتأتي زيادة وتيرة الإستيطان وتكثيفه في القدس وغلافها وفي جنوب الضفة الغربية وفي الأغوار، ضمن هذا السياق، وفي المقابل أتى تفكيك إسرائيل لبعض المستوطنات الهامشية في شمال الضفة الغربية مع بدء عملية إعادة الإنتشار الثانية التي انتهت عام 2003 في هذا السياقِ أيضاً.
حاولت الإدارة الأمريكية وفي أعقاب حرب الخليج الأولى عام 1991 وبعدما سقط على إسرائيل عشرات الصواريخ البالستية التي انطلقت من العراق من على بعد مئات الكيلومترات أنْ تستخدم هذا المثال وتلك الوقائع في إقناع إسرائيل أنَّ الموانع الطبوغرافية والجغرافية قد أضحتْ أمراً لا أهميَّة لها مع وجود إمكانية إطلاق الصواريخ البالستية باتِّجاه إسرائيل من مناطق بعيدة جدَّاً؛ وبالتَّالي فإنَّ التمسُّك بالإستيطان لأغراضٍ أمنية لم يعد مُجدياً. إلَّا أنَّ اللَّافت في الأمر أنَّ الإستيطان قد تضاعف منذ ذلك الحين أضعافاً مُضاعفة، خصوصاً بعدما تدفَّق مئات آلاف المهاجرين الجدد الَّذين قَدِموا من روسيا ومن جمهوريَّات الإتحاد السوفييتي السابق بعد أنْ تمَّ تفكيكه في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم.
كانَ وما زال يُنْظَرُ إلى الإستيطان ويتم تقديمه في إسرائيل - ولدى اليمين الإسرائيلي تحديداً - على أنَّه ضرورة من ضرورات استيطان الجزءِ الأهم " من أرض إسرائيل " تاريخيَّاً ووجدانيَّاً ومثيولوجيَّاً، وكان يتم استخدام قرينة ودالَّة الضرورات الأمنية المتصلة به كعنصرٍ إضافي يدعم وجهة نظر اليمين تجاه ضرورة تكثيفه وتعزيزه.
في حين كان يتم تناوله من جانب اليسار الإسرائيلي ابتداءً من الأفكار التي قدمها " إيغال ألون " في مطلع السبعينيَّات من القرن الماضي، في مشروعه الشهير لاستيطان غور الأردن، كإحدى ضرورات الدِّفاع الإستراتيجي عن إسرائيل، وكإحدى الوقائع التي يمكن فرضها في أيِّ تسويةٍ سياسية مع الأطراف العربية، مروراً بالأفكار والمفاهيم التي قدَّمها " إسحق رابين " في منتصف التسعينيَّات، وصولاً إلى الأفكار التي يطرحها حاليَّاً أقطاب بقايا اليسار في إسرائيل حول الإستيطان والتي يُحاولون أنْ تبدو أكثرَ ليبراليَّة، إلَّا أنَّها لا تُغادرُ منطق الضرورات الأمنية، ومنطق مراعاة الواقع الدِّيموغرافي الذي أفرزته السَّياسات الإستيطانية المتواصلة منذ مطلع السبعينيَّات من القرن المنصرم.
وفي كلا الحالتين لَمْ يكُنْ يتم تناول الإستيطان والسياسات الإستيطانيَّة – ولدى مختلف ألوان الطَّيف السياسي في إسرائيل - بمعزلٍ عن المزايا الإقتصادية والإستثماريَّة وكذلك الدِّيموغرافيَّة التي كان يوفرها ويجلِبُها في جوانب توفير العمالة الفلسطينيَّة الرَّخيصة داخل المستوطنات، وتلك المزايا القانونيَّة والحوافز الإستثماريَّة والإعفاءَات الجمركيَّة بما فيها التسهيلات الضريبيَّة الَّتي كان يتم تقديمها كحوافز تحت عنوان ضرورات الإستيطان وبما يجلِبُ ذلك من تقديم الحوافز لاستجلابِ موجات الهجرة اليهوديَّة الجديدة من الخارج إلى داخل فلسطين.
بكلِّ الأحوال فقد كان واضحاً ومنذ زمنٍ بعيد أنَّ كلَّ تلك الوقائع الدِّيموغرافيَّة والسياسية التي أفرزها الإستيطان تؤدِّي فيما تؤدِّي إلى إنشاءِ واقعٍ يشبه واقع البوسنة في الإتحاد اليوغسلافي السابق – وبغضِّ النَّظر أكانت إسرائيل تُخططُ للوصول إلى هذه الغاية بشكلٍ منهجي شاملٍ أو جزئي وبغضِّ النَّظر عن نجاحها في ذلك من عدمه – إذْ تبيَّن في النِّهاية أنَّ الإخلال بالتوازن السُّكاني الَّذي كان يجري في البوسنة والهرسك من جانب الصِّرب عبر عقودٍ من عمر الإتحاد اليوغسلافي كان الهدف منه هو تصوير الصِّراع الَّذي سيجري فيما بعد بين البوسنيين والكروات من جانب وبين الأقليَّة الصربية من جانبٍ أخر على أنَّه صراعٌ أهلي يجري بين السُّكَّان الَّذين ينتمون لأعراقٍ مختلفة، والَّذين لهم نفس الحقوق التاريخيَّة ونفس حقوق الملكيَّة القانونيَّة على أرضٍ مُتنازعٍ عليها، بحيثُ يتبع جزءٌ منهم لدولَةٍ مركزِيَّة ويحملون جنسيَّتها ويمثِّلون راعياً لها في أراضٍ مجاورة بحيث لا يمكنها التَّخلِّي عنهم وتجدُ لزاماً عليها دعمهم في صراعهم المسلَّح مع الأطراف الأخرى !!.
ربما هذا ما كانت إسرائيل تحاول فعله على الدَّوام للوصول إلى واقعٍ يتمُّ فيه تصوير الصراع بين المستوطنين والفلسطينيين وفق النَّموذج اليوغسلافي، لكنَّ تلك السِّياسة - ووفق طبيعة هذا الصراع ووفق الإدراك المتزايد لخطورة الواقع الذي أفرزه الإستيطان على المستوى الدَّولي والإقليمي؛ وإنْ لمْ يُواجه ذلك بإجراءَات دوليَّة وإقليميَّة صارمة حتَّى الآن – محكومٌ عليها بالفشل، وإنْ أفلحت في رمي الجميع في فراغ خيارات العنف والصِّراع الدَّامي ووصول الفلسطينيين إلى عمقِ اليأس من عملية التسوية التي استغلَّت إسرائيل مناخها لتعزيز وتكريس واقع الإستيطان !!.