مهما اجتهد البعض في توصيف الهبة الجماهيرية الفلسطينية الجديدة ضد الاحتلال الصهيوني وضد سياساته العدوانية على الأرض والإنسان، وعلى المواقع الدينية المقدسة، وبشكل خاص فرض سياسة التقسيم الزماني للمسجد الأقصى، فإن الاجتهادات بين انتفاضة ثالثة أو هبة جماهيرية أو أعمال المواجهة تبرز مجموعة من الظواهر، بعضها إيجابي والآخر سلبي، وسوف أرصد ما توصلت إليه منذ أيام وحتى يوم تشيع جثمان الشهيد مهند الحلبي من خلال الظواهر التالية:
**أولى المظاهر، والتي تثير الدهشة، وترفع من الحالة المعنوية هي هذا اندفاع جيل جديد من الشباب والشابات الفلسطينيين لمجابهة الاحتلال بشجاعة منقطعة النظير ضد جيش الاحتلال والمستوطنين، دون خشية من القرارات العنصرية التي اتخذتها حكومة نتنياهو والتي أجازت إطلاق الرصاص الحي على قاذفي الحجارة، وتوعدت بإصدار أقصى الأحكام بالسجن لمدد تصل إلى خمسة عشر عاماً! وكان الرد على كل ذلك هو بالمزيد من المجابهة حتى لو وصلت إلى حد الاستشهاد، ولهذا نرى أعداد الشهداء تتصاعد في كل أرجاء فلسطين التاريخية، من غزة إلى تل أبيب وحتى العفولة وجنين ورام الله ونابلس وبيت لحم والخليل... إلخ. المواجهة وحدت فلسطين وقفزت عن أسوار العزلة مع أبناء الوطن الفلسطيني ما وراء الخط الأخضر وتخطت حواجز الانقسام الفلسطيني الداخلي، ولهذا فإن الشعار البارز في جنازة الشهيد مهند الحلبي قبل أيام هو الدعوة نحو الوحدة الوطنية.
**المظهر الآخر لأعمال المجابهة الحالية، وهو مظهر سلبي، إذ لا ناظم موحد لفعالياتها على عكس الانتفاضة الفلسطينية الأولى وإلى حد ما الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وباستثناء فعاليات جماهيرية محددة نظمتها القوى الوطنية، فإن الغالبية العظمى من هذه الفعاليات تتم بمبادرات شعبية شبابية ترغم بعض القوى على تأييدها والمشاركة فيها في إطار مواقع محددة، ما دفع بعض أصحاب الرأي السياسي للقول إن أعمال المجابهة الحالية لن تستمر في ظل الافتقار إلى إطار قيادي موحد وعمل ميداني مشترك، ومع كل ذلك فإن هذه الحالة قابلة للتحرك إذا ما تصعدت المجابهة وتبدلت الاحتمالات.
**المظهر الثالث، ما يمكن أن يحيط بأعمال المجابهة الشبابية هو الموقف الرسمي الفلسطيني الذي يحاول تشكيل السقف السياسي للتحركات ويقوم على الإصرار على ما يسمى بسلمية الحركة الشعبية، دون تحديد ماهية هذه "السلمية" خاصة وأن قوات الاحتلال لا تتردد في إطلاق النار وسموم الغازات والضرب للمتظاهرين السلميين أمام بصر العالم، وكذلك في تعمد إلى القتل أمام أية "شبهة"، كما حصل مع الشهيد علون، ابن العيساوية والشهيدة الهشلمون في الخليل. إن أعمال استسهال القتل أو التشوية للمحتجين السلميين ماثلة للعيان ولم تخرج عن هذا السقف إلا ما نادراً عندما استخدمت السلاح.
الأخطر هو التوقف أمام ظاهرة الموقف الرسمي من جهة، والموقف الشعبي من جهة أخرى والمتمثل باتساع عزلة النظام السياسي الفلسطيني ما دام سقف الموقف الرسمي قد تحدد في التحذير من استخدام العنف بشكل عام، وما دام مفهوم المقاومة "السلمية" مفهوماً عاماً وغامضاً ويمكن تفسيره كيفما شاء!
من كل ذلك، نضع أيدينا على قلوبنا من أن تتبدد هذه التضحيات الغالية وتتحول إلى صور وذكريات في الوقت الذي يستمر السير في طريق المفاوضات المسدودة وفي ظل الانقسام الداخلي، وهو انقسام يتوسع يوماً بعد آخر، ودون أي تبديل في شكل ومضمون العلاقة مع الاحتلال.
مربط الفرس في كل ما يطرح هو الالتفات بجدية إلى إعادة بناء بيتنا الداخلي، وحينها نكون أوفينا بالوعد إلى الشعب الفلسطيني وشهدائه وجرحاه والأسرى الرابضين في مواجهة السجان الإسرائيلي.