محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
في كتابنا"شعرية المفارقة في القصيدة الجزائرية المعاصرة" كتبْنا عن الشاعر الجزائري الأخضر بركة، تحديدا، عن مجموعته الشعرية"محاريث الكناية":"ينطلق الأخضر بركة في تأثيث عالمه الشعري من تربة الحياة ومن حجارة الواقع المعاش، متكئا على قدرته على ملاحظة حركة العالم بعين البصير الذي لا يفوّت كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، لتكون بعد ذلك مادّة شعريّة تتخذ من تفاصيل الحياة اليومية المختلفة سبيلا إلى صناعة المعنى وتحقيق شعريّة تقوم علاقتُها بأشياء العالم على وفاق دائم وعداوة دائمة أيضا، فالشاعر في محاريثه ينهل من قاموس الحياة كمّا هائلا من المسمّيات والموجودات المادية، ليتخذها مشروعا لتركيبته الشعرية، لكنه في الوقت ذاته، يستمر في عداوته مع الواقع، أو مع النسق المرجعي للغة، عن طريق ترحيل أشياء العالم ومسمياته إلى عالم الشعر، وتجريدها من معانيها السابقة، وتتويجها بمعانٍ جديدة تقتضيها الجغرافيا الشعرية المغايرة التي أصبحت تنتمي إليها.."(شعرية المفارقة، ص:271.)
يظهرُ هذا الاشتغال الذي يتدرّج من اليوميِّ البسيط إلى التجريدي والرؤيوي أيضا في قصيدته المنشورة مؤخرا"مساء الخير يا جسدي"، وهي نص يبني رؤيته في آنٍ واحد على ما يحوزُه الفرديُّ ممثَّلا في الجسد وما تتصف به الجماعة المتحدَّث عنها بالضمير هم. ولتحقيق هذه الرؤيا، ولتأكيد اختلاف الفرد النقي عن الجماعة المتورّطة بالفساد والافتتان بكل بريق، يستعمل الشاعر رمزية الإسمنت في صلابته وقسوته لتوصيف هذه الزمرة البشرية التي يظهرها النص نقيضا للذات المتحدِّثة الشاهدة على ما يحدث:
" نومُهُم اسمنتُهُمْ
متأبّطا دين الحديدِ، سماؤُهُم اسمنتُهُمْ
شهباءَ تعرجُ، ليلهم اسمنتهم يعلو طوابق من زفيرٍ
من غسيل ثيابهمْ،
ممّا تيسّر في ترائبَ من غرائبَ.
في الثياب الداخليّة يدخلُ الاسمنتُ".
يرمز الإسمنتُ إلى طغيان الماديّة المتوحّشة على حياة الناس، وتسلّلها إلى دواخلهم، سيطرتها على رؤيتهم إلى ذواتهم وعلاقتهم بالآخرين، حتى تحوَّلوا كما وصف الشاعر إلى"أحاجٍ"، يرتعون "في مروج القوت"، يندرجون، دون وعي منهم، في منظومة البيولوجيا يأكلون وينامون ويتناسلون. يتدافعون من أجلِ ما يحوِّلُ الباطن إلى جرةٍ فارغة من الإنسان، عامرةٍ ببرد المادة بعد أنْ تسرّب الإسمنت إلى كل شيء في حياتهم؛ في نومهم، في سمائهم التي يحكمها دين الحديد، سماء جعلوها بلا روحٍ ولا معنى إلا ما يجعلُ" أعشاشهُمْ ملأى بدود الرزقِ"، ما يحوِّلُ حياتهم إلى خرسانة لصناعة القسوة، وأيضا"في الثياب الداخليّة يدخلُ الاسمنتُ"كما حدّث النص. إنه احتلال المادّيّ للبشري، وولع هذا الأخير بالخديعة. هم لا يدرونَ أنَّ ما يقفون عليه من صلابة المادّة سيفتته ماء الفناء عمَّا قريبٍ، ويجري به العدمُ في متاهة صحاريه. يقول الشاعر:
"أسرى حساباتٍ على كرّاسِ حانوت الوجود
على مخدّاتٍ من العدمِ الوثير اليُمْنِ يـتّكئون".
يتكئون على مخدّاتٍ من العدم الوثير، هكذا يتكئون على موتهم بالإسمنتِ دون أنْ يشعروا، على وهمهم بالذاهب صوب زوال أكيد. كأنَّ النص هنا يحاور شطر أبي العلاء المعري:"كأني بخيطيْ باطلٍ أتشبّث". يتمسكون بحبال الوهم والزيف وهم يعانقون الهاوية السحيقة دون وعي. يفقدونَ الإنسانَ كلما اختاروا الإسمنت، يصبحون موتى أحياءَ كلما تغلغلتْ في أعماقهم شهواتُ المادة، ولأنهم هكذا يدعو الصوتُ الناطق في النص إلى الاختلاف عنهم حدَّ التناقض:
" هُمُ الستُّ الجهاتُ المحصناتُ الحافظاتُ الحرْثَ
كن أسرار سابعةٍ
همُ الكلماتُ، كن صمتا
هُمُ.. مبراةُ أقلام الّرُقى، شرْحُ المتون على الهوامش،
بائعوا أعشابِ ترقيع الخرابِ
مزارعُ اللّحمِ المُذكّر في دُمى اللّحْمِ المؤنّثِ،
يرتقون الوقتَ بالأسلاكِ خوف مفاتقِ الأيّامِ،
غرقى
في مشاغلَ من شؤون المَضْغِ،
غرقى
في مسابحَ من زيوتِ معابدِ الماضي".
يكشف النصّ عن انهيار القيم وفداحة خسارة الإنسان لنفسِه حين يغرق"في مشاغلَ من شؤون المَضْغِ"، حينَ يصبح زائف الخطوات، ممتلئا بالجشع، ساكنا في الجليد، أسيرا للزائل عبدا للقوت والمال حتى يخسر معنى الإنسان فيه، ويخسر معناه عند الآخرين:
"أسرى حروبٍ مع ذبابٍ حول جثّةِ حاكمٍ،
أسرى التثاؤبِ في أسرّة عيشِهِمْ
أسرى قروض البنْكِ،
ليس لهمْ ظلالٌ تحت عين الشمسِ تتبعهُمْ إلى قيلولةٍ.
أسرى مقاهٍ".
إنَّ كلمة"أسرى"هي الأنسب لوصف مأزق هذه الجماعة، فهي أسيرة الحرب وجارية الحكام، أسيرة الكسل في عصر تتغيّر فيه الحياة بسرعة الضوء، أسيرة الفراغ. وأمام هذه الفظائع لا يجد الشاعر إلا أنْ يتوجّه بخطاب مختلف إلى جسده؛ حيث أفكاره وحياته وجيناته، وحيث النقاء:
"مساءُ الخير ياجسدي
عليك أُطِلُّ من آجرّةٍ مكسورةٍ في حائطِ البلدِ، النهاراتُ انتبهنَ
إلى غياب الضوْءِ في الضوضاءِ، شكرا
للقناديل التي احتفظت بوميضها في الرّيح".