أمقت الحديث في السياسة حين يتعلق الأمر بحقوقنا الفلسطينية، فالسياسة تفقدها بريقها وعنفوانها وقدسيتها، وتدخلها في غرف لها رائحة الخيانة والتآمر والتنازلات. فالأمر بسيط جداً، وألخصه بقول شاعرنا الكبير مظفر النواب "شفاه الله" حين قال: (قضيتنا لنا وطنٌ كما للناس أوطانُ)، ولا كلام بعد هذا الكلام.
الانتفاضة الحالية التي لا أريد أن أطلق عليها رقما أو وصفا، لم تنطلق بقرار جهة رسمية إلا من جهة القلب، انطلقت من الغضب واليأس والطرق المسدودة، من التطاول على المقدسات والحرمات، من البطالة والفقر، من البرد والجوع، من الإحساس بالركوع، من زلزلة الضلوع، من البيوت التي أضحت ركاما، من أجساد تحترق ثم تصعد لخالقها، من رقبة شاب مخنوق ومشنوق، من قلب فتاة قُتلت بدم بارد ووحشية لا مثيل لها على الحاجز، من حجاب تلك الفتاة، من رائحة النار المنبعثة من طفل رضيع، من صمت السياسيين والثوريين، انطلقت عفوية، هكذا وبكل بساطة كالنار التي تعلق بثوب مشبع بالنفط.
لا أحد يجب أن ينصح هؤلاء الفتية الشجعان، لقد أُصبت بالغثيان من مسؤول يقول وهو يتمطى ويرتدي بدلة أنيقة جدا لا تليق بجنازات الأطفال والنساء والشباب والرجال، ولا تليق بالأقصى الذي يتعرض للسرقة تدريجياً. قال ذلك المسؤول إن على الشبان ألا يسمحوا باستدراجهم إلى مربع العنف، ولا أدري ما مفهومه للعنف! فالعدو يمارس العنف والوقاحة يوميا، ويقتحم الأرض التي من المفترض أنها تتمتع بسيادة، وأنه انسحب منها بموجب اتفاقيات. العنف وصف هزيل أمام ما يقوم به المستوطنون المتوحشون المجانين المهووسون بالقتل والحرق.
علينا ألا نستمع ولا ندقق بكلمات مثل العنف والإرهاب، فالكيان الصهيوني معجون بالإرهاب، من قمة الهرم إلى أصغر جندي، من أكبر حاخام إلى أنذل مستوطن، ومن يصف ما يقوم به الشباب والفتية والفتيات من أعمال بأنها إرهاب عليه أن يراجع تاريخه مع الهنود الحمر وفي فيتنام والعراق وفلسطين وسوريا وغوانتانامو، ويسأل نفسه: من أباد 17 مليون هندي أحمر، ومن سلح الإرهابيين المتطرفين القتلة، ومن أنشأ القاعدة، ومن سكت على أنظمة فاسدة ودكتاتورية وجاء ليحاربها.
الانتفاضة الثالثة أو الرابعة أو العاشرة، لا يهم الرقم، انطلقت وانتهى الأمر، وإن سكنت لفترة، أو استطاعت الأصوات المانحة أو الداعمة في إسكاتها، فإنها لن تموت. وعلى كافة الجهات التي صدأت ألا تحاول سرقتها من هؤلاء الأبطال، ويجب ألا يجيّرها أحد لصالحه، وعلى الأصوات التي تحاول أن تشحنها عن بعد أن تصمت، فهؤلاء الفتية يعرفون كيف يديرون المعركة، إن كانت بالحجارة أو السكاكين أو إشعال الحرائق أو بالمولوتوف.
الوقت لم يعد يسمح للدبلوماسية المريبة، ولا للتأجيل، ولا للحبوب المسكنة، ولا للوعود الكاذبة، ولا للنصائح التي تخرج من أفواه كأنها تلوك لحوم أخوانها. وإن أي جهة تسعى إلى الإمساك باليد التي تقذف الحجر مصيرها النار التي (وقودها الناس والحجارة)، وأي مسؤول يقف حائلا بين السكين وجسد الشرطي أو المستوطن ستخترق السكين جسده عاجلاً أم آجلا. وبدلا من ذلك، على هؤلاء أن يدربوا الشباب على المناورة وتنظيم تحركاتهم وحركاتهم، وأن يعصفوا أفكارهم ليبتكروا وسائل جديدة لمقاومة المحتل.
متى سينظم المجتمع الفلسطيني نفسه، فلا يترك مصيره للمفاجآت، متى سيفكر السياسيون بالمنهج الإستراتيجي ويضعون الخطط والخطط البديلة الثانية والثالثة، متى سيهتم قادة هذا الشعب ببناء موارده البشرية حتى لا يبقى عالة على أحد.
كنت أعتقد أن الانتفاضة الحالية لن تكون ضد المحتل، بل ضد الفاسدين سارقي أقوات الشعب، ضد المتاجرين بزمن الشعب، ضد (المفكرين) الذين ينصحون الناس بالتعقّل، ضد أولئك الذين لم ينجزوا شيئاً يذكر حتى الآن على صعيد السيادة على الأرض. لكن الحظ حالفهم ولم تكن الانتفاضة في الاتجاه المعاكس.
إن أي انتفاضة يجني فوائدها هؤلاء الفاسدون في الإدارة والسياسة والاقتصاد والتنمية والوطنية، ستكون انتفاضة فاشلة، ولهذا، من الكياسة بمكان، ومن الحكمة، ألا يقدم الفاسدون الشاملون النصيحة لأحد، وأن يتركوا الغضب يعم الأماكن كلها، وليلزموا البيوت، فالشاشات الفضية للأرواح الفضية فقط لا غير.