سامي سرحان
تسع سنوات مضت على وفاة الرئيس ياسر عرفات القائد الرمز، لم يغب أبو عمار المناضل والحائز على جائزة نوبل للسلام عن المشهد الفلسطيني بكل تفاصيله وتعقيداته، إنه يعيش بين حكايا الناس، وعند احتياج المواطنين البسطاء، الذين لطالما أحبهم الختيار وأحبوه، كرمز وأب وأخ ومعين عند الشدائد وقسوة الزمن، عاش حياتهم البسيطة في الملبس والمأكل والمشرب، أحبوه على شموخه وبساطته في التعامل وحبه للعامة صغيرهم وكبيرهم، وما زالوا يرددون عباراته الشهيرة في حكاياهم ومجالسهم ويستذكرونه عند الشدائد والمحن، وكيف لا وقد استقرت مواقفه وعباراته الخالدة في الضمير والوجدان الفلسطيني، ويكفي أن تسمع عبارة «يا جبل ما يهزك ريح» و «على القدس رايحين شهداء بالملايين» و «اللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة» حتى ينتابك شعور جارف بأن طيف الختيار قد بات يملأ تفاصيل المكان، وأنه ما زال حاضراً فيه وفينا.
أقدم أبو عمار على خطوة تاريخية على طريق تحقيق السلام وحل الصراع، ما كان لغيره القدرة على اتخاذها، مُتسلحاً برصيد نضالي لا يمكن لأحد الطعن فيه، وبرؤية ثاقبة لا تخطئ في تقدير الظروف الذاتية والمخاطر المحيطة بقضية فلسطين التي نذر نفسه وحياته دفاعاً عنها، وبدل أن تلتقطها إسرائيل حاصرته في المقاطعة في مكتبه وأبى أن يستسلم فقتلته بالسم.
آمن أبو عمار بشعبه وقدرته على التضحية والعطاء، فآمن شعبه به وبقدرته على قيادة هذا الشعب العظيم، وصولاً إلى تحقيق أهدافه وتطلعاته في الحرية والتحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.
أصّل الختيار بنهجه الخاص لحركة وطنية فلسطينية رائدة وأمينة على حقوق الشعب الفلسطيني وتضحياته وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير، أمسك أبو عمار بكل عناصر القوة التي يمتلكها «القائد»؛ العسكر، المال، الإعلام، السياسة، يكتب البيان العسكري والسياسي بنفسه، ويراقب ما يكتب في الصحف والمجلات حتى في أدق التفاصيل، يوقع أمر الصرف بنفسه، ينفق بسخاء ويحاسب بدقة، يعرف قيمة المال في السياسة وفي قضاء حاجة المحتاج ولا يتوقف عن كتابة عبارة «يصرف له» في العسر وفي اليسر، حليم ودود يعفو ويصفح، هو رجل حرب وسلام، ولم يحارب أحداً في رزقه ورزق عياله ولو كان ألد أعدائه.
يعرف الختيار مكانة الرجال، فهو فدائي وسياسي من طراز رفيع، محافظ على الثوابت التي يحفظها إخوانه ورفاقه في درب النضال الطويل، محاور، ومناور، ومرن، ولا يتزحزح عن هدفه قيد أُنملة، صلب كالفولاذ، لا يعرف الراحة ولا التعب، دائم النشاط ولا يتوقف عن العمل، ويصل الليل بالنهار، يتفقد القوات، يكتب بياناً، يحضر مهرجاناً، يلقي خطاباً، يحلق في السماء في زيارة علنية أو سرية، حقيبة مرافقيه جاهزة 24 ساعة للحركة، وحقيبته بينها بما تحتويه من حاجات بسيطة ومال لمهمة السفر، أبو عمار ألف رجل في رجل واحد.
أبو عمار، كبير القوم، يعطيك ما تريد، لكنه يأخذ كل ما يريد، حمل أعباء قضية العصر، قضية تنوء بحملها الجبال، وما كلّ وما ملّ، خرج من حصار إلى حصار في سبيل قضيته التي آمن بها، وظلت ثقته بالنصر لا متناهية، فكان يبث الأمل والعزيمة في محيطه وشعبه وأمته ويرى النور في آخر النفق المظلم، وظل على يقين من أن شبلا ًأو زهرة من أبناء شعبنا سيرفع علم فلسطين على أسوار القدس والأقصى والقيامة.
لم يجمع الفلسطينيون، يسارهم ويمينهم، قوميهم ووطنيهم، إسلاميهم وشيوعيهم، على زعيم أو قائد لمسيرة نضالهم كما أجمعوا على زعامة وقيادة أبو عمار. هو حاضر في كفاحهم وفي سلامهم وفي ثقافتهم، حاضر في وجدان السياسي والعسكري والمثقف والعامي وابن البلد، يخاطب قادة القالم وحركات التحرر الوطني، لأنه عميدهم منذ تحرير فيتنام، وما زال في الذاكرة.
أنصف أبو عمار المرأة الفلسطينية، نصف المجتمع، أنصفها مناضلة وأم شهيد وزوجة شهيد وأخت شهيد أو جريح أو أسير، فهي «حامية نارنا» كما ورد في إعلان الاستقلال، وأقام للثورة مؤسساتها لرعاية أُسر الشهداء والأسرى والجرحى ليطمئن مناضلوا الثورة الفلسطينية على أولادهم وأسرهم من بعدهم، ولم ينساهم في عيد أو مناسبة، رحمك الله يا أبا عمار، فما زلت حاضراً فينا.
لم يغب عن المشهد الفلسطيني، فروحه حاضرة في كل منا شاء من شاء وأبى من أبى، رحم الله أبا عمار، وجزاه خيراً عن شعبه وأمته، فذكراه لا تنسى.