دراسة خاصة
د. رزان إبراهيم / جامعة البترا
ما فتئ الأدب أن يكون أداتنا للتعبير عن كل ما هو إنساني مركب. بل إن منهجاً لتحليل الرواية غير مقتصر في حكمه الأدبي على جماليات النص وحسب يمنح القراءة بعداً ثرياً إضافياً، يمكنها من الغوص بعيداً في مكنون مجتمعات حاضنة لهذا الأدب. وهو ما فعله- على سبيل المثال- عبد الوهاب المسيري حين التقط أكثر من صورة مجازية لأدباء من إسرائيل محيلاً من خلالها إلى الحالة الثقافية العامة فيها. أذكر منها حديثاً له عن أسطورة شمشون، بما تحمله من أبعاد سيكولوجية ممتدة من شأنها التعريف بحالة حصار نهائية مغلقة لا يمكن الفكاك منها إلا بتدمير الذات وتدمير الآخر عبر نهاية تبيد الجميع. بل إن دراسة لبعض الأغاني الإسرائيلية التي ظهرت بعد عام 1972، تكشف شيئاً من عبثية تحيط بهذه الأغاني التي يسخر أحدها من شمشون، مشيراً إليه باعتباره عاملاً في عربة قمامة. ليغدو فعل التدقيق والتأمل في كلمات بعينها مؤشراً هاماً لا يخلو من إشارات تعطي إحساساً عاماً بالدمار والفقدان والضياع والذلة.
إن كنا قادرين حال تلمسنا المنهج والأدوات اللازمين على تحليل العقل الصهيوني في رؤيته لذاته عبر آدابه وأساطيره وأغانيه الشائعة، فإننا بالمثل وعبر أشكال ثقاقية متعددة نصبح قادرين على تكوين صورة مجدية في تحليل العقل الصهيوني في رؤيته للآخر العربي. وفي ظني أن الرواية بمكانتها الأولى التي احتلتها في الآداب العالمية عموماً هي المرشح الأول القادر على تمثيل المرجعيات الثقافية والنفسية والاجتماعية للبشر الذين تحتضنهم. لتؤكد بما لا مجال للشك فيه ما يحمله الأدب من معالم تأثر وتأثير لا بسبب ما هو جمالي وحسب، وإنما لأسباب حمولات تاريخية ومجتمعية تؤكد علاقة النص الأدبي بالعالم من حوله. وتعيد في الوقت ذاته بناء تاريخياً أوجد النص وخلقه.
وإن كنا نعتقد جازمين أن أدباً صهيونياً ما كان له أن يكون بعيداً عن فكر صهيوني- لا نقول واكبه وحسب- وإنما سبقه وهيأ له على النحو الذي يصفه غسان كنفاني حين تحدث عن مؤتمر بال سنة 1897 جاعلاً إياه “تتويجاً عملياً لسلسلة من من الضغوط التي لعب فيها الأدب الصهيوني دورا أساسياً”، فإن دراسة قام بها غالب هلسا لأعمال الروائي الصهيوني (عاموس عوز)؛ تثبت ما تقدم، حيث الإشارات المتعمدة لسوء نية العربي، قبالة صهيوني جاء ليعمر أرضاً خراباً ويمد يديه بالمحبة إلى عرب يتسمون بسوء طوية جعلتهم يقابلون الإسرائيلي بالسيف؛ ليصبح كل سوء يحدث سببه سوء ظن العرب بالقصد الطيب للصهاينة.
والمدقق في أكثر من دراسة تناولت موضوع العربي في الرواية الإسرائيلية يدرك ضرورة أن يمتلك الناقد وعياً للتاريخ يمنحه أرضية نقدية تجعله قادراً على تقدير براغماتية صهيونية تسوغ أعمالاً عدوانية تعمل على تشويه العربي فتجعله ( المتخلف، المتوحش، الصحراوي، شبيه الحمير، المتخلف، اللص، المنحط، القذر) قبالة اليهودي المتفوق حضارياً المنتمي للغرب الذي يحق له أن يستولي على الأرض، بما يملكه من كفاءة استثنائية لا يملكها غيره العربي. بما لا يخرج عن براغماتية استعمارية عرفناها عن غرب أباح إبادة السكان الأصليين وأشاع قصوراً استثنائياً لقيم الآخر المحتل، حين نصّب نفسه حاملاً الخير المطلق، وعليه تقع مهمة ترحيل هذا الخير إلى عالم الشر الوحشي، بما يدفعنا إلى استعادة عبارة وصف فيها أكثر من ناقد هذا المسار بأنه “ اختلال مرضي على مستوى دولة بأكملها”.
لفتت انتباهي منذ أيام دراسة جادة مطولة للأستاذ أحمد راوي كانت مجلة فصول النقدية المعروفة قد نشرتها منذ سنوات عن صورة العرب في الرواية الإسرائيلية المعاصرة. من أهم معالم هذه الدراسة أنها تثبت عبر تنقلاتها المتعددة بين الروايات الإسرائيلية أن توجهاً صهيونياً واضحاً يبقى الأكثر انتشاراً فيها على الرغم من نزعات اشتراكية موهومة يدعي أصحابها إدانة لممارسات الاحتلال، ويطلقون أفكاراً تتفق وفكرة التعايش السلمي مع العرب. إلا أن المراقب يجد أن الواحد منهم وفي اللحظة التي يرى فيها تناقضاً بين الصهيونية وأي فكر آخر، يسارع إلى الانسحاب باتجاه ضرورة الانضباط لتنفيذ المشروع الصهيوني الرامي إلى تأسيس دولة إسرائيل؛ وهو أمر تعبر عنه الدراسة ببلاغة إذ تصف هذا الروائي في لحظة كهذه وقد سارع إلى طرح قلمه جانباً مرتدياً السترة العسكرية، مثبتاً إخلاصه للفكر الصهيوني، جاعلاً من نفسه ذلك الذئب الذي يفترس حملاً وديعاً اضطر إلى افتراسه بسبب جوعه.
وحين تتطرق الدراسة إلى صورة العربي في الستينيات من القرن الماضي، فإنها تظهره نقيضاً لليهودي، وأن أي اتصال به ينجم عنه موت وكارثة، علماً أن العربي يظهر خلال هذه الفترة بعيداً عن صراع مشخص يتقابل فيه طرفان، ويكتفى بإظهاره من خلال تخيلات البطل اليهودي، كابوساً يعكر حلمه ولا يتركه يعيش في أمان، إذ لا حضور مادي ملموس له. بل إن صورة العربي الشرس ما فتئت أن تتصاعد ما بعد ال67 بعد ظهور حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة. لتأتي الرواية مرة أخرى لتؤكد تخلفاً عربياً كان عليه ان يخضع للتقدم اليهودي، أما فعل المقاومة فلا سبب له ولا منطق. لذلك لا بد من أن يواجه العرب بالسيف إلى أن يكفوا. لتعود صورة العربي في ال 73 أقل شراسة إذ يصبح واقعاً ملموساً بعد أن كان كابوساً ذهنياً، وهو ما كانت له تجلياته بتقديم العربي محارباً نداً للجندي الإسرائيلي، يقتحم مواقعه وقد يأسره.
رغم ما سبق، فإن تمسكاً بصورة العربي السلبية- حتى وإن شاب هذه الصورة شيء من التبدلات بواقع شروط تاريخية- بات هو الأكثر شيوعاً في الرواية الصهيونية. بل إن حديثاً عن واقع انتفاضة أجبرت الإسرائيلي على التعامل مع الفلسطيني بنظرة فيها شيء من الاحترام لا يلغي ما شاع عن العربي من أنه (شهواني، مغتصب للنساء، منافق، يحب القتل، مرتش جشع، كاذب إرهابي، مخرب، يشبه الحيوانات، كسول لا يمكن إسناد أي عمل صعب إليه، لا يمتلك قدرات ذهنية، ينفع لأعمال نمطية؛ رعي الغنم، الفلاحة، الخدمة في بيوت اليهود)
حتى على صعيد الصفات الجسدية، فإن العربي يظهر بملامح مرعبة تبعث على التقزز والاشمئزاز. وهو ما يمكن الوقوف عليه في رواية ( بيت في بغداد) لإسحق موشيه وفيها نقرأ عن العربي الآتي: “كان حافي القدمين قذر الثياب، وأحياناً يشد فوق دشداشته زناراً أقذر منها، وأحيانا أخرى كانت دشداشته تتطاير مع الرياح، وليس لها ما يشدها إلى وسطه، .....كما تبينت أن ما اعتبرته دائماً وسخاً وقذارة على وجهه، لم يكن إلا لحية غير منتظمة، وشارباً مضحكاً، يمتزج فيه التراب بالشعر بالأقذار من كل نوع”. وحين يلتهم الطعام فإنه “ ....يعمل فيه أصابعه الطويلة الأظافر الوسخة دائماً، وكان يمسح يديه بدشداشته، ثم يترك الصحن الفارغ دائماً على زاوية المدخل، ويغادر الدار، دون كلمة شكر، بدو أن يلتفت إلى أحد”.
عموماً، لا يخفى على مطلع دوافع هذا التنميط للعربي، بما يحمله من رغبة ملحة في اكتساب الحق الأخلاقي لاختراق الآخر العربي، وهو ما يتم على نحو منهجي مقنن يتوسل كل ما من شأنه تشويه الآخر، أو تقديمه في إطار من سياسة إسقاط عكست صفات الشخصية اليهودية في آداب عالمية مالت إلى شيطنته، ولعلي هنا أستعين بغالب هلسا مرة أخرى حين استغرق في تأمل الفكر الصهيوني من خلال روايات (عاموس عوز) مستنتجاً أن العداء الذي يحمله الصهيوني للآخرين، يعود إلى شعوره بأن الآخرين هم الذين يحملون هذا الإحساس العدواني ضده، الأمر الذي يستثير عدوانيته الخاصة فيتقمص عدوانية الآخرين التي خلقها وهمه.
يضاف إلى ما تقدم أننا لا نستطيع أن نلغي واعزاً عنصرياً مستشرياً في المجتمع الإسرائيلي، ولا أدل عليه من رؤيتهم لأنفسهم بأنهم شعب الله المختار. ولا نذهب بعيداً إن وافقنا هلسا مرة أخرى في قوله” إن المقولات الأساسية للفكر الصهيوني هي نفس مقولات الفكر النازي مطبقة على اليهود بدلاً من الألمان”. بل إن حديثاً عن تعاون سياسي وعسكري بين أجهزة المخابرات النازية والصهيونية أصبح معروفاً ولا يحتاج إلى اكتشاف. لذلك كان من حق اليهود كأمة متحضرة أن تحل مكان العربي لأنه ينتسب إلى أمة متخلفة.هذا إن اعترفوا بوجود عرب على أرض فلسطين أساساً. ويذكر في هذا الشأن موقف حكومة بيغن من مسلسل تلفزيزني بعنوان ( خربة خزعة). تم منعه لسبب بسيط وهو إن قصته تحكي إن جيش الدفاع الإسرائيلي قد أجلى العرب عن إحدى القرى العربية. ليحضر السؤال بكل وقاحة:” هل يوجد عرب في فلسطين؟ أو هل وجد عرب على أرض فلسطين؟
ومن هنا يأتي دورنا نقاداً وباحثين في قراءة منتجة فاعلة للرواية الإسرائيلية، بما يساعدنا على استبطان العقل الصهيوني عبر آليات تتوسلها الرواية، من شأنها كشف مكنون ثقافة استعمارية غايتها إضفاء الشرعية على الوجود الاحتلالي لإسرائيل؛ فإن حرصت الرواية الإسرائيلية على تصوير أرض فلسطين بأنها كانت خالية من شعب، فإننا مطالبون بما يكشف عكس ذلك، وإن كانت الرواية الإسرائيلية قد جعلت الشخصية اليهودية هي المهيمنة داخل عوالمها السردية، فإن قراءة فاعلة من شأنها أن تفضح خفايا هذه العوالم، ولربما المطالبة بروايات طباقية تظهر العربي الفلسطيني على صورته الحقيقية بعيداً عن كذب يدعي مزية اليهودي على العربي، وينسى أو يتناسى أنه قوّض دعائم وطن باستخدام الضغط والإرهاب والسجن والسرقة، بما يقتضيه الأمر من فعل ثقافي مضاد يكتسب أهمية خاصة حين يكون قادراً على ملاحظة القناع الأدبي داخل النص، ومن ثم وبمهارة القارئ الكفء يكون قادراً على إزالته.
يبقى من الأهمية بمكان أن نقول: ليس هناك أخطر من تقديم الآخر برؤية أحادية تجعله وحشاً لا إنسانية له؛ وليس أدعى من ضرورة تدقيق النظر في أية حقيقة ترد على لسان الآخرين بشأن إنسان ما؛ فالإنسان ليس قيمة محددة ونهائية تبنى عليها حسابات ما، بل إن صاحب أية صورة نمطية مطالب بالدفاع عنها، خصوصاً إن ارتبطت صورته بنوايا استعمارية خبيثة كالتي يحملها الإسرائيلي للفلسطيني، ولهذا فإننا مطالبون بأكثر من دراسة معمقة في الرواية الإسرائيلية مبرزين المادة الدعائية التي تحملها، بما يستدعي بطبيعة الحال معرفة للغة العبرية، بل وتدريسها، بما يعود في نهاية الأمر بالمنفعة علينا. مذكرين مرات ومرات أنه لا يجوز لكائن ما أن يسجن من يقابله داخل أنماط سابقة بشكل تعسفي لا إنساني. بما يدفعنا للتفكير بأن صوراً متفاصلة منطلقها أحكام سابقة تحط من قيمة الإنسان وفقاً لجنسه أو لونه، من شأنها أن تؤدي إلى التسطيح أو حتى الهبوط بالمستوى العام لكل أدب يرتضي احتضانها.