الهوية والإبداع
د. مليحة مسلماني
آلة بيانو في فضاء عام ـ ليس مسرحًا فخمًا مفتوحًا ـ يعزف عليه شاب وأمامه شبان آخرون يرددون أغنية مطلعها «الساعة عم تمشي.. والليل بعده ليل». لم يكن هذا المشهد في أحد المسارح المدينية أو في إحدى دور العروض الكبيرة، بل في وسط شوارع مخيم اليرموك المحاصر. «شباب مخيم اليرموك» هو اسم الفرقة التي أنشأها الشاب أيهم أحمد مع أبيه الكفيف عازف الكمان، اللذان يعملان في صناعة الأعواد وتصليح الآلات الموسيقية في معملهم في مخيم اليرموك، إضافة إلى تعليم الأطفال الإيقاع والعزف على أكثر من آلة موسيقية. انضم إلى أيهم وأبيه بضعة شبان من المخيم لم يحترفوا الموسيقى، لكنهم وجدوا في الغناء وسط البيوت المهدّمة أسلوب حياة وصمود، يتنقّلون بالبيانو بين المناطق المدمرة يعزفون ويغنون مُرهَقي الملامح والأجساد، لينشروا الفرحة والأمل بين أهاليهم المحاصرة، وليُسمعوهم أصواتًا موسيقية علّها تخلق بديلًا عن صوت الرصاص والقنابل، وليبثوا رسائل منبعها عمق الوعي الفلسطيني المتجذر منذ النكبة حتى الحصار في سوريا، ويتخذون من الفن والتظاهر الإبداعي السلمي طريق نضال مشروع من أجل الإنسانية.
هذا التقديم عن “شباب اليرموك” ما هو إلا إشارة جدّية إلى عمق مفهوم “المخيم” في الوعي الجمعي الفلسطيني. إذ أن مأساة اليرموك، وغيره من المخيمات المنكوبة للاجئين الفلسطينيين في سوريا، تفرض على المثقف الفلسطيني خاصة والشعب الفلسطيني عامة ضرورة الوقوف على البعد الفكري والثقافي الأعمق لقضية “المخيم الفلسطيني”، فبالإضافة إلى التظاهرات وحملات التبرع والإغاثة وإثارة الرأي العام العربي والعالمي حول المأساة الإنسانية المستمرة في اليرموك وسوريا ـ وهي ممارسات نضالية ضرورية لا شك وأقل ما يمكن أن يُقدَّم للمحاصرين من فلسطينيين وسوريين، هناك ضرورة برأينا للعودة على مفهوم المخيم كرمزية للهوية والقضية الفلسطينيتين، وإثارته ـ في السياق السوري المعاصر ـ ليس كمجرد تجمّع سكاني لفلسطينيين هُجِّروا من ديارهم إبان النكبة.
لعل الشعب السوري المنكوب الآن، هو من أكثر الشعوب العربية التي أدركت أن الوجود الفلسطيني على أرضه ليس مجرد وجود تنتهي حدوده عند التواجد الفيزيائي للفلسطينيين، بل هو وجود هوياتي لقضية حاضرة ومستمرة في نضالها السياسي والثقافي من أجل التحرر والاستقلال. بناء على هذا الأساس من الفهم والإدارك الشعبي الفلسطيني السوري، اندمج الفلسطينيون في سوريا ليصبحوا جزءًا لا يتجزًأ من نسيجها الثقافي والاجتماعي، وفي نفس الوقت حافظوا على وجودهم المميز كلاجئين فلسطينيين لا كمواطنين، في إحالة مستمرة ودائمة لهويتهم التي مركزها فلسطين التاريخية في الوعي الجمعي. إذ أن الهوية المحدّدة بالقول والممارسة: “أنا لاجئ” تحيل الى حالة اللا استقرار المستمرة بعيدًا عن الوطن الأول إلى حين العودة إليه وتحقيق الاستقرار.
إن الهدف من هذا المقال ليس الوقوف على الاحصائيات المؤلمة لأعداد المهجّرين من المخيمات الفلسطينية ومن سوريا والقتلى والجرحى والمفقودين وتبعيات ذلك على الأرض، فتلك أخبار وتقارير تملأ وسائل الإعلام لحد الإشباع المؤذي والمؤدي للشعور بالعجز عن التصرف حيال الكارثة، لكن الهدف هو النظر، والدعوة إلى النظر، إلى أبعاد تلك المأساة فيما يتعلق بالهوية والثقافة والقضية الفلسطينية. وبرأينا فإن الفهم العميق لمسألة المخيم الفلسطيني وضرورة الحفاظ على هذا الوجود الهوياتي تصب في صالح الشعب السوري عامةً وحقه في دولة الديمقراطية والحرية، خاصة في ظل تمخّض مخيمات للاجئين السوريين أيضًا، الذين يفرض وجودهم ليس مسؤولية إيواءهم وإغاثتهم فحسب، وإنما أيضًا ضرورة العمل على عودتهم في أسرع وقت ممكن إلى ديارهم في ظل أجواء من الأمن والأمان.
نتحدث هنا عن ممانعة ثقافية جمعيّة تشكلت عبر عقود في المخيم الفلسطيني الذي خرج منه قاعدة عريضة من القادة السياسيين والمثقفين والمبدعين الفلسطينيين، لتكون تلك الممانعة ـ سدًّا مانعًا متينًا ضد التخلي التام عن الهوية الأم والانصهار في هويات تفرضها الحروب وتوالي العقود. وهي ممانعة تختلف بشكل كلّي عن “الممانعة السياسية” التي تدّعيها الأنظمة، والتي تمارس سياساتها وفق حسابات الربح والخسارة السياسية، والتي بلا شك أيضًا أصبح المخيم والقضية الفلسطينيين أداةً من أدواتها السياسية في لعبة المصالح الدامية والمستمرة.
لا شك أن تجرىة الاقتلاع عام 1948 التي أدت الى اللجوء، تصبح حجر أساس في تعريف الفلسطيني لذاته أمام نفسه وأمام الآخر، فما حصل خلال النكبة، أدى مع مرور الزمن إلى تحوله إلى ثقافة راسخة تشكل أساساً متيناً في الهوية الوطنية ـ الثقافية الفلسطينية ومطالبها في العودة إلى الوطن وإقامة الدولة، وبذلك يصبح المخيم الفلسطيني، والذي سمّاه عليه أرئيل شارون بـ “حاضنة لتفريغ الإرهاب”، في فلسطين وفي الدول العربية، بؤرة العمل السياسي والثقافي الفلسطيني، ومركز العمل العسكري خلال مسيرة الكفاح المسلح ضد الاحتلال، والأرض الخصبة التي نمت فيها الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وثقافة العودة وتحرير الأرض، التي تراكمت عبر آلية معقدة وخاصة بتجربة اللجوء، وعبر رواية الماضي بحذافيره، ونقله من جيل إلى جيل . عملية تكوّن الذاكرة الجماعية بين اللاجئين، بدأت بأملهم في العودة السريعة إلى الأرض حالما تنتهي الحرب، ومن ثم حين لم يحصل ذلك، استمرت بسرديةٍ شفوية شعبية يشوبها الحنين إلى القرى والمدن الفلسطينية ورواية تفاصيل الحياة وأحداثها، إلى أن أصبحت تلك الرواية، التي تنتهي دومًا بحلم العودة، وثيقة تاريخية تراكمية ينتقل إرثها من الآباء إلى الأبناء إلى الأحفاد، ويستمر نقلها باستمرار المأساة، وبذلك تشكلت الرواية الفلسطينية هوية حاضرة وذاكرة جمعية هي سند الوجود والتمايز وأرضية الانطلاق في العالم المحيط.
مخيمات “اليرموك” والحسينية” و”خان الشيح” و”درعا” في سوريا، مأساة إنسانية متكررة، لكن المأساة الأعمق لا تكمن في تفتيت المخيم فيزيائيًا فحسب، بالتهجير والقصف والتجويع، وإنما أيضًا باغتيال الامتداد الثقافي الهوياتي المتكون في رحم المخيم منذ عام 1948 جنينًا ينتظر ولادته التي لن تتحقق إلا بالعودة، عبر عملية تراكمية مركبة صاغت الوجود والهوية. فالمخيم الفلسطيني أينما وجد في فلسطين وفي الدول العربية هو ليس مجرد تجمع سكاني كما ذُكر، وإنما أرضية يقوم عليها أحد أهم رواسخ القضية الفلسطينية وخطوطها الحمراء، وهو حق العودة، وتفريغ المخيم من قاطنيه بالحصار والتجويع والتهجير هو اغتيال واضح ومباشر لهذا الحق وهدم للأساس القائم عليه ـ المخيم. وذلك يفرض، كما ذكر بداية، ضرورة الوقوف فكريًا وثقافيًا وبالممارسة العملية السياسية والثقافية أمام محاولة الاغتيال تلك، فهو قتل ليس لبضع عشرات الألوف أو مئات الألوف من الفلسطينيين وإنما لأحلام أجيال ولذاكرة جمعية لشعب، هذه الذاكرة هي التي شكلت أرضية صمودهم ووجودهم واستمرارهم، وهي الممانعة الحقّة والحقيقية ضد اغتيال القضية الفلسطينية.