لا حاجة للتذكير بهمجية إسرائيل وعدوانيتها، لكنَّ الملاحظ في الآونة الأخيرة أنها رفعت درجة عدوانيتها إلى حد لا يمكن القبول به؛ وأمام هذه الاعتداءات والاستفزازات، لم يكن أمام الفلسطينيين إلا المواجهة، والدفاع عن النفس، وقد عبّروا عن غضبهم من خلال هذه الهبّة الجماهيرية الهادرة، ومن خلال عمليات طعن ودعس لمستوطنين حدثت في أكثر من مكان.
عمليات الطعن هذه إذا مورست بشكل صحيح وضد أهداف منتقاة، قد تؤدي إلى إجبار المستوطنين على الرحيل، أو لجم عدوانهم على الأقل، ومن المهم تطوير هذا الشكل الإبداعي من المقاومة الشعبية. لكن الخشية أن تتحول إلى عنف غير موجه؛ فقد عبّر البعض عن قلقه من تزايد عمليات الطعن على نحو عنيف، وخارج عن سياق النضال الفلسطيني، خاصة تلك التي تستهدف مدنيين عزل، ولأن القدس يسكنها أكثر من ثلاثمائة ألف فلسطيني ومثلهم من اليهود، يحتكون ببعضهم يوميا، ما يعني أن عمليات الطعن إذا صارت متبادلة وأخذت بالانتشار فإن النتائج لا يمكن توقعها، ولا السيطرة عليها، وستكون الأغلبية الساحقة من الضحايا من الفلسطينيين، وربما تكون الخسائر لا تحتمل.
في المقابل، برَّر البعض عمليات الطعن حتى لو راح ضحيتها مدنيين، بأن إسرائيل بجيشها ومستوطنيها يمارسون أبشع وأخس عمليات الاعتداء على الفلسطينيين، وأن المجتمع الإسرائيلي برمته بات أكثر توحشا ودموية .. وهذا صحيح، ولكن المستوطنين ليسوا هم قدوتنا، والمجتمع الإسرائيلي ليس مَثلنا الأعلى الذي يحدد لنا قواعد سلوكنا .. فإذا كانوا هم متوحشون وإرهابيون، فإنه يجدر بنا الحفاظ على قيمنا الإنسانية، وأن نتفوق عليهم برسالتنا الأخلاقية. تذكروا كيف برهن الفدائي الفلسطيني على ذلك في آخر عملية (عملية إيتمار قرب بيت فوريك بداية الشهر) حيث امتنع عن قتل أربعة أطفال، في حين أن المستوطنين لم يتورعوا عن حرق عائلة دوابشة وهي نائمة، وعن حرق الفتى أبو خضير وهو حي.
لا خلاف على أن من حق الشعب الفلسطيني، ومن واجبه الدفاع عن نفسه، ومقاومة الاحتلال بكافة السبل المتاحة، لكن الأهم من امتلاك الحق؛ أن نعرف كيف ومتى نمارسه، وبأية وسيلة ؟ وسائل المقاومة لا تتحدد بمعيار توفرها، بل بمعيار القبول بها من حيث المبدأ، فعند ممارسة أي شكل من أشكال المقاومة، يتوجب علينا أن نرى انعكاس ذلك في مرآة العالم، وأن نحرص على صورتنا أمام الآخرين، بل وصورتنا أمام أنفسنا، وكيف سيرانا أحفادنا بعد ردح من الزمن، وكيف سيقيّمون تجربتنا، وفي أي ميزان .. بمعنى آخر علينا أن لا نرى المشهد من زاوية واحدة، وتحت تأثير اللحظة الراهنة، علينا أن نراه بعمومية أوسع وأشمل وأبعد مدى.
وبطبيعة الحال فإن المقاومة في أحد أشكالها تتضمن العنف، وسينجم عنه بالضرورة قتلى وجرحى من الطرفين، فليست كل المقاومة سلمية، وعندما خاض الفلسطينيون غمار الكفاح المسلح، مارسوه بنُبلٍ وفروسية، ولم يكن قتالا لأجل القتل، ولا بدافع الحقد والانتقام، ولا رغبة بالموت تحت مسمى الشهادة، وعندما كان "أبو جهاد" يخطط لأية عملية فدائية، كان يضع خطة الانسحاب قبل خطة الهجوم، لأن حياة الفدائي مقدسة، وكان يحرص أن تكون الهجمات متركزة على أهداف محددة.
علينا أن نميز بين الدفاع عن النفس والمقاومة من جهة، وبين الحقد والكراهية من جهة ثانية. المقاومة بمقدار ما هي صد للعدوان، هي ثورة على الظلم وعلى الاحتلال والعنصرية، والثورة بحد ذاتها فعل إنساني واعي وشجاع ومنظم، وهي قبل أن تحرر الأرض تطهر النفس من شرورها، وتحررها من كل ما علق بها من أدران وقيم سلبية، وبموازاة مواجهتها للعدو، هي مواجهة مع الذات أيضاً .. الثورة بدون أخلاق فعل غوغائي همجي، الثورة بلا قيم إنسانية تصبح مجرد عنف وانتقام، وكما قال "أبو عمار" الثورة دون هدف سياسي تصبح قاطعة طريق.
أما الحقد والكراهية فهي ردود فعل غرائزية تنطلق من المستوى البدائي للإنسان، الكراهية تدمر صاحبها قبل أن تدمر عدوه، هي حِملٌ ثقيل، تستحوذ على الفرد، وتسلبه إنسانيته، وتعميه عن رؤية الطريق، ومع الوقت تحوّله إلى وحش. الكراهية تولِّد طاقة عنيفة غالبا ما تؤدي إلى التطرف، وعندما تعجز عن تفريغ هذه الطاقة ضد العدو (وهي غالبا ما تعجز) فإنها تحول عنفها نحو المجتمع. وإذا كانت المقاومة تتطلب شجاعة فإن الكراهية كثيرا ما تقترن بالغدر، وقيل أن الكراهية هي التي تسببت بكل مشاكل العالم، لكنها فشلت في حل أيٍ منها.
لا أسعى هنا للترويج للتسامح والتعايش، ليس لأن هذا بمثابة انتحار (بالذات في هذا الوقت)؛ بل أحاول التحذير من خطورة تفشي الكراهية، لأنها سترتد بعد وقت قصير جدا على المجتمع الفلسطيني، كما يحدث مع كل ثورة تواجه انتكاسة، أو تعجز عن تحقيق كافة أهدافها دفعة واحدة، حيث ينتج عنها موجات من العنف الداخلي والفوضى، تقوّض الثورة نفسها، وتحرفها عن مسارها، وتخلق لها أعداء جدد.
اليوم معظم هؤلاء الشبّان الشجعان الذين حركتهم مشاعر الغيرة والغضب للدفاع عن كرامتهم، المستعدون للتضحية بأنفسهم، وينتظرون أي فرصة لتنفيذ هجمات ضد قطعان المستوطنين، هؤلاء إذا تملكتهم مشاعر الكراهية السلبية، فإنهم بعد أن تهدأ الأوضاع، وتعود الحياة إلى سابق عهدها، فإنهم سيفرغون شحنات غضبهم الحبيسة ضد المجتمع نفسه، وسيكونون على أهبة الاستعداد لطعن أي شخص لا يعجبهم. وهنا تبرز أهمية الفصائل والمجتمع والإعلام لتكريس الأبعاد الإنسانية في الكفاح الشعبي بكافة أشكاله.
أي كاتب أو متحدث يستطيع بكل سهولة بث روح الكراهية، لأن ذلك لا يتطلب أكثر من دغدغة العواطف، والعزف على وتر الثأر والانتقام، ومحاكاة نزعات الغضب البدائية المختزنة والمكبوتة، والتي تنتظر فرصة لتنفجر.. خاصة في مجتمعاتنا المأزومة التي تعاني من القهر والهزيمة والكبت الجنسي والعاطفي .. لكن هؤلاء المحرضون سيكتفون بدور المراقب والمزاود، وسيكونون أول الهاربين وقت الجد.
"مانديلا" الذي قاد شعبه نحو الحرية كان يقول: "حربنا ليست موجهة ضد البيض، بل هي ضد نظام الظلم والقمع والتمييز العنصري، وقد أصبح تحرير الظالم والمظلوم رسالتي في الحياة".