الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الذئب ضيفي – لا تطلقوا النار / خيري حمدان

2015-10-27 10:49:23 AM
الذئب ضيفي – لا تطلقوا النار / خيري حمدان
صورة ارشيفية



في السنوات الأخيرة وبعد أن بلغت سنّ التقاعد، قررت هجرة حياة الصخب في المدينة، كنت قد حصلت على قطعة أرض كبيرة في قرية قريبة من العاصمة، أحطتها بسور مرتفع لمترين، ثم بنيت كوخًا من طبقتين، ولم أنس زرع أشجارًا كثيرة متنوعة، بعضها مثمر وأخرى بهدف الزينة، كانت أوراقها عريضة مخضرة طوال أشهر السنة، بالرغم من البرد الشديد خلال شهر الشتاء. في الحقيقة كنت أشعر بالوحدة القاتلة، وكانت المدينة تقتلني كلّ يوم بضجيجها، ولم أكن قادرًا على الاستراحة والشعور بالأمان خاصة بعد أن قضت زوجتي وكبر أبنائي، اثنان منهم غادرا البلاد للدراسة والعمل في الخارج، أمّا الصغيرة فقد قررت البقاء معي أينما توجهت. كنت في حيرة من أمري ولم أكن متأكدًا من قدرتها على التأقلم مع ظروف الحياة في البيت القروي الجديد. كنت بحاجة إلى ممارسة العراك مع الطبيعة ومعرفة مدى قسوتها والانتصار عليها عند الضرورة، أمّا إذا تمكنت هي منّي، فشرف كبير لي أن أكون ضحيّة للطبيعة. كنت أدرك كذلك بأنّ كلّ هذه المشاريع نسبيّة مؤقتة، فالعودة إلى حياة المدينة المعتادة، لم تكن تحتاج لما يزيد عن ساعة من الزمن في عربة بطيئة.

حضرت معي ابنتي مريم، كانت قد أنهت المرحلة الثانوية من دراستها، كان فصل الصيف حارًّا واعدًا، وكانت رغبة مريمي البقاء معي أطول فترة زمنية ممكنة، فترةٌ تفوق مشاعر الانطلاق نحو الحياة والصخب لديها! كانت ترغب بالبقاء معي بعض الوقت، قبل أن تطرق أبواب الجامعة وتغيب عنّي هي الأخرى بحكم الدراسة. كنت غير قادر على العودة إلى مسقط رأسي، لأنّني على ما يبدو فقدت الانتماء الفيزيائي لهناك. كان أصدقائي القدامى قد تغيّروا كثيرًا، أطلق معظمهم اللحى، وغرقوا في حالة من الإيمان التقليدي الذي يصاحب الشيخوخة الشرقيّة. لم تعد الأمورُ التي تهمّنا مشتركة، فقد أصبح لكلّ منّا عالمه الخاص المميّز. هذه الحقيقة زادت من وحدتي، أنا الذي تجاوزت الستّين من العمر. باختصار كنت غريبًا أينما حللت، وكانت الطبيعة هي الوحيدة القادرة على تخليصي من هذه المشاعر القاسية.

وصلنا إلى القرية، ابتعدنا قليلاً في الجزء المحيط حيث مملكتي الصغيرة، كانت الشجيرات التي زرعتها قد أثمرت، وكان اللون الأخضر طاغ في جميع أنحاء المكان. عدا عن كلّ هذا، تجمعت الكثير من الطيور الغنّاء كأنّها هي الأخرى شعرت بدفء الحضور الأنسنيّ. كانت مريم في منتهى السعادة، لحاجتها الماسّة للتماهي مع الطبيعة، وقطف كلّ ما تقدّمه الحياة من خيرات تبدو لنا في الوهلة الأولى كأنّها مجانية.

في اليوم التالي، كنت على وشك الانطلاق إلى الغابة المحيطة، لاصطياد بعض الطيور أو غزال تائه، الأمرَ الذي عارضته ابنتي مريم. صاحت غاضبة "إلا الغزلان يا أبي، إلا الغزلان، أرجوك لا تقربها!". كانت مصرّة على التزامي بسلامتها، وأصرّت على الحضور معنا، ولم أجد أيّة إمكانية لرفض طلبها وهي المقربة لفؤادي. 

انطلقنا في باطن الغابة الشاسعة، التي كانت تحمل أسرارًا لا يدرك كنهها سوى القلّة والعارفين بخبايا المكان. كنت قد حصلت على بندقية صيد من مختار القرية، بعد أن تعارفنا في حفل عشاء تلى عرس ابنه قبل أشهر. كنت قد قدمت للعائلة الشابّة هديّة نادرة، عبارة عن تحفة شرقية اشتريتها من سوق الحميدية قبل ما يزيد عن عقد من الزمان. مختار القرية احتار كيف يردّ لي الجميل، وقرر أن يقدّم لي بندقية منمّقة، مؤكدًا لي بأنها وبالرغم من جمالها إلا أنّها قادرة على قتل فيل، ثمّ سارع ضاحكًا ليخبرني بعدم وجوب القلق، لأنّ الغابة لا تحوي فيلة في هذه الأنحاء. فال لي أيضًا بأن للبندقية اسمٌ اختاره بنفسه. قال لي بأنّه يمكن لي بأن أطلق عليها اسمًا آخر إذا أردت، لكنّي أصرّيت على الاحتفاظ باسمها الحقيقيّ "ستيفانيا". 

كانت الغابةُ سخية نهار ذاك اليوم، تمكّنت من اصطياد الكثير من الأرانب. لم تغضب مريم كثيرًا، كانت تعرف جيدًا قدرة الأرانب على التكاثر، وتعويض الخسارة المتواضعة التي ألحقتها بها. في أثناء طريق العودة إلى المنزل، لاحظت ذئبًا يلاحقنا، بدا متوحشًا وحيدًا، تذكّرت الحالة النفسية التي عشتها قبل حضوري إلى القرية النائية. الغريب بأن مشاعر الوحدة تبخّرت بعد أن ابتعدت عن تيار البشر المتدفق في كل مكان من حولي في العاصمة. تمهّلت قليلاً، تركت إحدى ضحياتي من الأرانب للذئب كإشارة ودّ وتقرّب من هذا الحيوان الفذّ المتوحّد. التهم الذئبُ الأرنبَ وغذّى الخُطى نحوي قليلاً. كان يهرول، كان بحاجة للتواصل مع أرواح أكثر من حاجته للطعام. قالت مريم خائفة بأن كلبًا كبيرًا في أثرنا، أخبرتها بأنه ذئب متقاعد وليس كلبًا! زاد خوفُها، لكنّي طمأنتها وقلت لها بأنّه يبحث عن رِفقة. تساءلت مريم "ألا توجد ذئبة في الجوار يا أبي؟". قلت لها، "ربّما يرغب في هذه اللحطة الهرب من ذئبته، من يدري!". وأضفت متسائلا: "هل تمانعين باستضافته؟". فكّرَتْ قليلا وسرعان ما وافقت على أن يكون الذئب النزيل الثالث في منزلنا القروي.  

* * *
لم تكن هناك حاجة لترويضه، فقد كان مخلصًا لبيته الجديد. كان يرغب بالبقاء بالقرب من الأسرة الصغيرة الجديدة، كأنّه سئِمَ التوحّد والتشرّد في الغابة القريبة. كان يبدو مسنًا، لكن هذا لم يمنع من تعلقه بحياة القرية القريبة من الغابة، وممارسة العواء بين الحين والآخر. بدأت أقوم بالكثير من الأعمال المنزلية في بيتي القروي، كانت هذه الأعمال لا تنتهي خاصة فيما يتعلق بأعمال ترميم المنزل ووضع ألواح الخشب في السقف وفي الأماكن التي تتطلب ذلك.

لم أتوقع أن ينقلبَ أهلُ القرية ضدّي بهذه السرعة، كان انصياع الذئب لي بحدّ ذاته تحدّ مثير لمشاعرهم، لم يكن بالأمر المألوف، خاصّة أن يُقْدِمَ غريبٌ مثلي عن القرية على اقتناء ذئب دون خوفٍ أو تردّد. لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى بدأت الشاعات تنتشر في الأنحاء. اتّهموه بالفتك ببعض الغنم والدجاج. لم أعِرهم بداية كبيرَ اهتمام، لكنّ النظراتِ النارية أخذت تلاحقني كلما عبرتُ القرية. 

- دعكَ من هذا الذئب يا غريب! ألا ترى بأنّه قد تسبب بالكثير من المتاعب؟
- لماذا يا مختار؟ أنت تعرف بأنّ الذئب بريءٌ من كلّ هذه الاتهامات؟
- نعم أعرف ذلك، لكنّها الغيرةُ والحسدُ يا صاحبي. كنت قد أمضيت وقتًا ليس بالقصير بينهم، لكنّه أصرّ على مناداتي بالغريب، وكنت شاكرًا له لقوله الحقيقة، التي كادت أن تغيب عن بالي. لكنّي بالرغم من كلّ ذلك كنت على استعداد للدفاع عن ذئبي بكلّ الطرق الممكنة.

أخذت أراقبه عن كثب، لمعرفة إذا ما كان يقوم حقًّا بالاعتداء على أملاك الغير، أم أنّ ما يدّعونه محض كذب وافتراء! كنت قد أطلقت على الذئب لقب تحبّب وكان يستجيب له بسهوله، كان يعرف صوتي ويستشفّ نبراته دون عناء. كان من المستحيل أن يطيع آخر إذا ما ناداه "شيشكو" مهما حاول المعنيّ تحميل صوته معاني الأمرَ والنهي.

حيّرني الوضع الجديد، كانت مريم قد غادرت القرية للالتحاق بجامعتها في العاصمة. وأصبحت أسير القرية، حيث كان من الصعب العودة بصحبة شيشكو إلى بيتي في العاصمة. يبدو بأنّ الذئب كذلك قد بدأ يشعر بحَيرَتي وتخبّطي ورغبتي بالإبقاء على حالة من التوازن، ما بين الاحتفاظ بالذئب وعدم التصدّي لأهل القرية، المندفعين ضدّه لأسباب أصولية لا تتوافق مع الواقع. أخيرًا قرّرت إدخال شيشكو إلى عالم نُزُلي الداخلي، خاصّة وأنّ الجوّ أخذ يميل للبرودة. كانت عيناه تخاطبني بكلّ الودّ الذي يمكن أن يدلقه ذئب في منطقة معزولة عن البشر والطبيعة المتمرّدة.

قررت اصطحابه معي نحو الدغل القريب، كنّا بحاجة للركض وربّما لمداعبة الطبيعة المنفتحة على عوالم لا يمكن إدراك أسرارها. كانت البندقيّة ستيفانيا لا تفارقني أبدًا، حين أكون خارج بيتي القرويّ. رأيت في البعيد غزالاً أرعن يتقافز في كلّ الجهات، لكنّي أحجمت عن إطلاق النار تجاهه، إكرامًا لمريم.

اكتفيت بتلقيم الأرانب البريّة رصاص بندقيتي. لم يطُل الوقتُ طويلا حين سمعت صدى رصاصة لعلعت في الأجواءِ، تلاها عُواء شيشكو المتألِم حتى الانشطار. كانت الرصاصة قد استقرّت في جسده، ثمّ ظهرَ أكبرُ المحرّضين ضدّ الذئب في القرية. نظر إليّ بعينين زجاجتين وزمجر كاشفًا عن أسنانٍ صفراء لمعت في حدود الأفق، "هذا أفضل لنا جميعًا يا غريب. حان الوقتُ للتخلّص من هذا الوحش!". صوّب البندقيّة ثانية تجاه شيشكو، لكنّه تمهّل قليلا حين رأى ستيفانيا موجّهة نحو جبينه مباشرة.

- يمكنك أن تسأل المختار عن دقّتها في التسديد يا قذر. حياتك مقابل حياته، لكَ أن تختار الآن. لكن كُن على ثقة من أنّني لن أتوانى عن إطلاق النار وقتلك على الفور، لتُريح وترتاح. هل هذا واضح؟.

أزاح بندقيته وانطلق مبتعدًا عن المكان، عندها أدركت مدى صعوبة تعايش الأرواح البشريّة، عندها أدركت حجم غربتي التي تحوّلت إلى اغتراب في وهلة من الزمن! عندها أدركتُ بأنّ الكثيرَ من مفاهيمنا خاطئة، لأنّنا غارقون في الخطيئة. كلّ يوم نزفّ أنفسَنا للخطيئة وتزفّ هي لنا في أوضاع وتقمّصات لا تنتهي. كان شيشكو ثقيل الوزن، لكنّي تمالكت ذاتي وحملته على كتفي، كان يتألم وكانت ورحه جريحة أكثر من جسده القويّ. اصطبغتُ بدمائِهِ التي نزفت من جرحه الغائر. وضعته على المقعد الخلفيّ للعربة وانطلقت بسرعة نحو الطبيب البيطري للقرية. تفاجأ الرجل حين شاهده، في البداية رفض التعامل مع هذه الحالة معترضًُا موضّحًا، بأنّه لم يعالج حيوانات متوحّشة حتّى اللحظة. رميتُ في وجهِهِ ورقتين من فئة المئة دولار ورجوته بأن يسارع لإنقاذ حياته. لم أكن أعرف بأن للمال هذا الأثر الكبير المدهش. سارع الطبيب البيطري بحقنه بالمخدّر، وسرعان ما غاب جسدُ الذئب في غيبوبة. عمل الطبيب لساعات حتّى تمكّن من إخراج الرصاصة ثمّ خاطَ الجرح، واقترح عليّ نقل الذئب لمركز العناية بالحيوانات. حمّلته في سيارتي وشاءت الظروف أن يكون أحدُ موظفي حديقة الحيوانات صديق قديم تربطني به علاقة حميمة، اتّصلته وأخبرته بتفاصيل حكايتي مع الذئب. وافق على الفور إحضاره للحديقة لتقديم المساعدة له، وإنقاذه خاصّة وأنّ حالته ما تزال حرجة.

مضى قرابة الشهر على إقامة شيشكو في الحديقة، كان قد تعافى وعرفني، كان ممتنًا وكان بحاجة للتواصل معي. دخلت إلى عالمه الجديد للجلوس إليه قليلا، كان راضيًا وكان طموحه لا يتجاوز القدرة على البقاء ومقاومة الرصاص العابر وما أكثره. كانوا قد تمكّنوا من كسر عنفوانه، كانوا قد سرقوا صفاته الذئبية في حوّامة الصراع الأبديّ، حوّلوه إلى بقايا مفترس، وكان قانعًا وأكثر. يقيت أتردّد على الحديقة بين الحين والآخر، موّلت كلّ احتيجاته من غذاء وعناية طبيّة. بعد قرابة السنة تمكنتُ من بيع منزلي القرويّ، بعد أن أصبت بحالة غير مسبوقة من الإحباط. لم تعد لديّ أيّة رغبة بمرافقة أهل القرية، فضّلت الذهاب في رحلات بعيدة إلى الجزر البعيدة كلّ صيف، حيث الطبيعة العذراء. كنت ما أزال أبحث عن الحيوات الكثيرة المترامية في أقطاب الدنيا، وكنت في الأثناء أبحث سرًّا عن ذاتي.