الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"الإنتقائِيَّة والإختزال، في تناول القضايا والظَّواهر الفكريَّة والسِّياسيَّة"/بقلم: رائد دحبور

2015-10-27 10:59:49 AM
صورة ارشيفية

 

في سبيلِ تسطيح الوعي ووضعِ سقفٍ مُتَدَنٍ للتفكير وحصره ضمن مربَّعات وقوالب بحيثُ لا ينبغي له أنْ يُغادرها؛ يتمُ وفي كثيرٍ من الأحيان اختزال الظَّواهر الفكريَّة والمعرفيَّة والاجتماعية والسياسيَّة، بحيثُ يعمَدُ البعضُ إلى الانتقاء والاختزال وينتقونَ لكَ منها ما يخدمُ غائيَّتَهم، أو يدعَمُ وجهة نظرهم، أو يُحقِقُ أهدافَ برامِجِهم على تعدُّدِ مساقاتها ووسائلها، وتنوُّع دوافعها واختلافِ أغراضِها.

 وهذه بعضُ الأمثلةِ على ذلك:
( 1 ): يحاولون اختزال المفكر السياسي والفيلسوف الاجتماعي الإنجليزي " جون لوك " بأنَّهُ صاحبُ نظريَّة العقد الاجتماعي وصاحبُ فكرة الفصل بين السلُطات فَحَسْب – وهذا جيِّد مع الأخذ بعين الاعتبار أهميَّة ذلك بكلِّ الأحوال – لكنَّنا نجدُ أنَّ من يسوقون هذا المثال، وخصوصاً في الغرب، وحتَّى لدى بعض النُّخب في الشَّرق، لا يحترمون ما جاءَ به جون لوك من حيث الجوهر إلَّا في حدود دائرةِ غائيَّتِهم وذرائعيِّتِهِم، وضمن ما يخدم مصالحهم؛ ولا يأخذون به إذا خالف مصالحهم بشكلٍ أساسيٍ في علاقتهم وتعاملهم مع الآخر، أو في علاقاتهم وتعاملهم مع باقي الشعوب والأمم والثّقافات، ويُهملون مغزى ومنهج فلسفته السياسية والاجتماعية الشاملة التي استهدفتْ تغيير أسلوب الحياة السياسية والاجتماعية في إنجلترا، وما كان لذلك من أَثَرٍ في مجمل القارَّة الأوروبيَّة.
فقد انطلقت نظرية جون لوك على قاعدةِ أهميَّة تحقيق مفهوم العدالة الإنسانيَّة والاجتماعية والسِّياسيَّة في تحديد الواجبات وتحمُّل المسؤوليَّات وتوزيع الحقوق، لكن يتمُ تجاهل كيفَ أنَّه تصدَّى بالنَّقد المنهجي الَّلاذع للأنظمة السياسيَّة والاجتماعية التي كانت قائمة في إنجلترا تحديداً وفي أوروبا عموماً، ولا يُؤخَذُ بعين الاعتبار - الأهم من كل ذلك - وهو جانب الدَّلالات الأساسيَّة والمغزى الجوهري فيما يتعلَّق بما قدَّمه جون لوك، ألا وهو أهميَّة دور الأفكار الجديدة، وكذلك أهميَّة وأثر المفكرين عندما يطرحون أفكارهم بمسؤوليَّة، ويجدون بيئة مناسبة وأرضيَّةً خصبة لأفكارِهم الإصلاحيَّة والتنويريَّة الجديدة...مقالٌ واحدٌ كتبه جون لوك كانَ كفيلاً بالانتباه لما كان يقول وينادي به، حيثُ أُخِذَتْ ملاحظاته بمأخذِ الاهتمام العميق، وعلى مَحْمَلِ الجدّ،ِ من قبل الجمهور الإنجليزي والأوروبي عموماً وتحوَّلتْ نظريَّته مع الوقت إلى دالَّةِ تغيير شامل في منهج التفكير السياسي ومن ثم في بيئةِ وبُنْيةِ الحياة السياسية والاجتماعية في عموم أوروبا.
صحيح أنَّهُ يتمُّ الإشارة إلى نظريَّة العقد الاجتماعي والفصل بين السلطات التشريعيَّة والتنفيذيَّة لـ " جون لوكْ " باهتمامٍ واحترام، ولكن دونما النَّظر إلى جوهرِ المفهوم العميق للعدالة الاجتماعية والسِّياسيَّة فيها، ودونما النَّظر إلى أهميَّة توفُّر ودور وملائمة البيئة الاجتماعية والسياسيَّة لتطبيق تلك النَّظريَّة، في إطارِ وعلى قاعدةِ الشُّعور الفردي والجماعي بالمسؤوليَّة الإنسانيَّة والأخلاقيَّة تجاه احترام حقوق الآخرين وحرِّياتِهم الشخصيَّة والفكريَّة والسِّياسيَّة.
(2): ينتقون من الثَّورة الفرنسيَّة – وعلى أهميَّتِها بلا شك - وعلى سبيل المثال، وفي سبيلِ التمجيد وتقديم الصورة الورديَّة الزَّاهية لها؛ خدمةً للثقافة الفرانكوفونيَّة ونفوذها المعياري عبر العالم فَحَسْب - رمزيَّة سقوط الباستيل، وهروب الملك لويس السَّادس عشر، وكيفَ أسَّسَ ذلك لسقوط الملكيَّة في فرنسا ومن ثم في عموم أوروبا، ويختزلونها بشعارات الحريَّة والأخوّة والمساواة – والَّتي لم تتحقَّق لا في أثناء مرحلة الثورة ولا في المرحلة التي تلتها – ويتجاهلون مشهد آلاف الضَّحايا من الأبرياء الذين سقطوا بيد الثورة على طريق إسقاط الباستيل، وتلك الحرب الأهليَّة الدَّامية والمرَوِّعة التي جَرَتْ على هامش الصراع بين أتباع بقايا عهد الملكية من نبلاءٍ وإقطاعيين والَّتي حصدت أرواح عشرات آلاف الضحايا والأبرياء ودمَّرت وأحرقت مئات القرى ومزَّقت المجتمع الفرنسي اجتماعياً ووجدانيَّاً في حينه، والتي جرت بين سكَّان الأرياف المغلوبين على أمرهم والمدفوعين إلى مصائِرهم بحكمِ خضوعهم لسلطة الإقطاع والنبلاء، وبين سكَّان المدن المتحمِّسين للثورة والمدفوعين برغبة الانتقام، حيث كان أهم ما ميَّزَ تلك الحقبة من الثَّورة هو نصب المقاصل التي كانت تجوب القرى والمدن ليحتفي الجمهور بمشاهد الرؤوس تنداحُ بعيداً عن أجسادِ الضَّحايا.
( 3 ): اختزلوا الإتِّحاد السُّوفييتي السَّابق ودوره الكبير والحاسم في هزيمة النَّازيَّة، ودوره الكبير في حفظ التَّوازن الدَّولي وفي دعم حركات التَّحرُّر عبر العالم، في الحقبةِ الستالينيَّة وفي مظاهر الدِّكتاتوريَّة وفي التَّركيزِ على جوانب الإخفاق في التَّجربة الشيوعيَّة، وفي الترويج لفكرة أنَّ الإتِّحاد السُّوفييتي كان دولة إلحاد – وبالمناسبة لم يكن تضخيم كل ذلك ببعيد عن الدِّعاية المناوئة للشيوعيَّة من قِبَلِ القوى الرأسماليَّة ليسَ بدوافع تتعلَّق بالإيمان أو بالدِّفاع عن الأديان على الإطلاق، وإنَّما على قاعِدَةِ الدِّفاع عن الفكر الليبرالي الرأسمالي والحفاظ على مصالح سلطة الشركات الرأسماليَّة العملاقة العابرة للقارَّات والثَّقافات، وقد استخدموا في سبيل ذلك كل وسائل الديماغوجيا والبروبوغاندا أو الدِّعاية الكاذبة، وكل مفردات الكذِب والتدليس وتزوير الحقائق واستخدام العاطفة الدِّينيَّة المتطرِّفة والتَّعصُّب الدِّيني منهجاً ووسيلةً وأداةً لهم في آنٍ معاً.
( 4 ): حاولوا اختزال الزَّعيم الرَّاحل " جمال عبد النَّاصر " وبما مثَّلَه من ظاهرةِ تحرُّرٍ، ونزعة حقيقيَّة نحو استقلال الإرادة الوطنيَّة والقوميَّة، وبما كان لشخصيَّته وكارزميَّتِه من تأثير - ليس عبر العالم العربي فحسب بل لدى الكثير من شعوب العالم - وكذلك الحقبة النَّاصريَّة برُمَّتِها، وبما مثَّلَتْ من مدٍّ قومي ومن زيادة منسوب الوعي واتِّساع مساحة الطبقة الوسطى في مصر والوطن العربي، وبما مثَّلت من تصدٍّ للمشاريع الغربية والاستعمارية في المنطقة، يختزلونها وعن قصدٍ بهزيمة عام  1967 فحسب، ويتجاهلون حقائق وواقع ووقائع التآمر على تلك التجربة وأثر ذلك في تحديد مساراتها وصيرورَتِها، وما قد واجهها من تحدِّياتٍ في الدَّاخل والخارج، بحيث أسهم كلُّ ذلك في الإخفاقات التي اعترت مسارها.
(5): كانوا قد اختزلوا الحرب على العراق وبما كان لها من الدَّوافع الإستراتيجية والجيوسياسيَّة العميقة والخطيرة بالمشكلة مع صدَّام حسين ونظامه، وبمشكلة امتلاكه لأسلحة الدَّمار الشَّامل والتي ثبت عدم وجودها بتاتاً.
 
( 6): الآن، يختزلون لكَ الحرب على سوريا وفي سوريا وبما لها من أسبابٍ عريقة عميقة وبما لها من أهدافٍ - ما زال النَّاس يختلفون حولها بشكلٍ سوريالي - وبما فيها من أطرافٍ كثيرة، وبما لها من تداعياتٍ وآثارٍ بعيدة خطيرة، بمشكلةٍ بين بشَّار الأسد والشَّعب السوري.
 
( 7): يختزلون لكَ روسيا اليوم ودورها الدَّولي الصاعد، وبما تمثِّل من مساحةٍ جغرافيَّة مهولة وشاسعة وبما تمتلك من قوَّة عسكريَّة هائلة، بدُبٍّ كسولٍ غبيٍّ مُغامر مشكوكٍ في مستقبَلِ بقائه، ويختزلون لك العراق ولبنان بالطَّوائف، وإيران بالتَّشَيُّع وبسبِّ الصحابة، ويختزلون لكَ مأساة اليمن المزمنة والحروب والنِّزاعات المتجدِّدة القديمة حول موقعها ومستقبلها وكأنَّها مجرّدَ مشكلة مع قبيلة أو مع طائفة قبليَّة.
( 8): وعلى ذات النَّهج، ما زالَ يتم محاولة اختزال القضية الفلسطينية وبرغم كونها تمثِّلُ أعدل قضِيَّة في التاريخ بمشكلةِ لاجئين ونازحين بسبب الحروب الَّتي حصلت بين دولٍ في المنطقة، بحيثُ يجري تصوير تلك الحروب على أنَّهُ ما زالَ مُختَلَفٌ دوليَّاً حول دوافِعِها وأسبابِها وأهدافِها، وكذلك يتم اختزال المسألة بحقوقٍ مدنيَّة وسياسيَّة لأقلِّيَّةٍ من العرب الفلسطينيين بين أغلبيَّةٍ يهوديَّة في دولَةٍ طبيعيَّة!.
وهكذا تمَّ ويتم تناول معظم القضايا العادلة عبر العالم - وفي كثيرٍ من الأحيان - دونما وازِعٍ إنسانيٍّ أو أخلاقيٍّ أو أمانة أو ضمير، كما يتمُ تناولُ كثيراً من الظَّواهر الفكرية والمعرفية والاجتماعية والسياسيَّة على أساسِ الانتقائية والغائيَّة وعلى قاعدة المصلحة والمنفعة دونما أيّ إطارٍ موضوعيٍّ أو أمانَةٍ علميَّة أو أدبيَّةٍ!.