"السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة"، لا شك أنها مقولة غاية في الأهمية لبناء أي مجتمع متحضر قوي، يعلم أين نقاط قوته وضعفه ليتحدث عن هذه وتلك بكل جرأة ووضوح، ولكن للمقولة أعلاه وجهاً أخر يؤكد أن بعض الحق أحياناً يراد به باطل.
إن ممارسة النقد، وتحديداً للسلطة أو الحاكم، إنما هو فعل مشروع ومحترم تماماً، لا أحد يمكنه إنكار ذلك، ولكننا يجب أن نميز بين النقد والخصومة، بين التقييم والردح، بين التصيد والمناقشة، بين الحقيقة والافتراء، ليس لأننا نخشى السلطة، ولكن لأننا نقدس المؤسسة "مؤسسة الدولة"، والفرق كبير وشاسع بين أن نعبد الأشخاص، وبين أن نحترم كينونة المؤسسة.
فكرة نقد السلطة فقط لمجرد نقدها مهما فعلت، باتت فكرة ممجوجة وسخيفة إلى حد بعيد، فممارسة النقد لإدانة الآخر، بصرف النظر عن فعله وتصرفاته، ودون طرح ما هو مختلف، إنما هي ممارسة فارغة من أي مضمون لا تصدر إلا من جهات لا تملك في جعبتها ما تطرحه من أفكار خلاقة تنفع المجتمع وقضاياه.
وأنا هنا لا أدافع عن السلطة، التي هي محط نقد في الكثير من الممارسات، ولكني أعالج فكرةً لا أجد في التوغل فيها فائدة سوى العمل الحثيث على تفسيخ أركان المجتمع بقصد أو دون قصد، والسلطة هنا ليست المجتمع، ولكنها بمؤسساتها والعاملين فيها والمنتمين لها، أحد مكونات هذا المجتمع، وموضوع التصيد في مائها ليل نهار فقط لأنها السلطة، ليست بطولة ولا تقترب من البطولة في شيء، ليس لأن السلطة ورموزها فوق النقد، ولكن لأن المعنى عادة ما يتعدد بتعدد قرّائه كما يقال.
البطولة الحقة أن نشير بملء الفم إلى الخطأ كما هو دون إضافة أو تأويل، أياً كان فاعله، ولكن الشجاعة أن نقول كلمة الحق في الجهة نفسها أو الشخص محط النقد متى فعل ما يستحق.
البطولة أن نمارس فعل النقد البنّاء لا الهدام، أن نملك ناصية الحق بما نقول أو ندعي، والحق حرية، والحرية مسؤولية.
النقد ليس إقصاء للآخر، وإنما هو طرح جديد. هو ممارسة على قاعدة الثقة، التي إن غابت، ضاعت الرؤية. والبطولة مرة أخرى أن نقول ما يقارب الواقع لا الأحلام، دون أن نغرق في الأولى "مقاربة الواقع" أو نستغني عن الثانية "عبقرية الأحلام".
البطولة أن نفهم معنى التلاقي على المصلحة العامة لا التنافر حول ادعاء الحرص على المصالح العامة، أن نمارس ما يجب ممارسته من النقد في الزمان والمكان الأقرب إلى الصواب، كي لا يصبح احتراباً يديره المستفيدون، فيحصد نتاجه المتاجرون.
خلاصة القول مرتبطة بما نعيشه اليوم في ظل الانفتاح على تكنولوجيا الاتصالات وانفلاش مواقع الإعلام الاجتماعي "السوشيال ميديا" وكأننا بمقولة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، إذ تحولت بين ليلة وضحاها في هذا الزمن الافتراضي لتصبح: "أنا أنتقد السلطة، إذن أنا مناضل". ولكي نصبح مناضلين فقط بالكلام، يمكننا الجهر بالقول: "أنا ضد السلطة".