بقلم:محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري
هنالك تاريخٌ يظلّ بكرا كالأبجديّة تماما؛ يظلُّ يولدُ عبر الزّمن في أعين العابرين المجذوبين إلى جسد الطبيعة الفاتن باعتباره كتابَ المعنى المفتوح الذي لا يطال أشجارَه جفافُ الفناء. هكذا يظلُّ الجنوب الغربيّ الجزائريُّ، وبالضبط، مناطقه الأثرية، تاريخا ينافس الحاضر في حداثته الشقية ليستمرَّ محافظا على عمقِ اللحظة التي تجعل الإنسان مرتبطا بالوجود وما يتركهُ في نفسه من دلالاتٍ مختلفة. هكذا، أيضا، أفتتح الكلام عن رحلة أدبيّةٍ ابتدأتْ بوصولِ صديقيَّ الشاعريْن بوزيد حرز الله وعادل صيّاد إلى مدينتي المشرية، ولاية النعامة، بالهضاب العليا الغربية من الجزائر، تماما، على الحدود المغربية، فكنّا ثلاثة شعراء على موعد مع طبيعة أشبه بقصيدة تنتمي إلى كلّ الأزمنة لأنّها، وبرغم القِدم، لا تزالُ تحدث هنا والآن.
ابتدأنا الرحلة بالتوجّه مباشرة إلى مدينة العين الصفراء(مائة كلم عن مدينة مشرية جنوبا)، وهي المكان نفسه الذي استقرّتْ فيه الكاتبة إيزابيل إيبرهاردت(1877-1904) ووجدتْ بين رمالِه الدافئة ما يكفي من السكينة للكتابة والحياة والموت، فكان واده الذي يفيض مرة في كل شتاء تقريبا طريقها الأبيض إلى آخرة بيضاء. وهو كذلك المكان نفسُه الذي عاشت فيه الشاعرة والصحفية الجزائرية زهرة رابحي المعروفة بصفية كتّو سنة 1944 لتنتهي هي الأخرى إلى موتها الاختياريّ بالعاصمة سنة 1989 حين منحتْ جسدها البيولوجي والشعريّ إلى جاذبيّة جسر تليملي، تاركة منتوجا أدبيًّا لا يموت على رأسه عملها"صديقتي القيثارة". وبرغم الاختلاف بين الكاتبتين؛ إذ الأولى من أصول أجنبية والثانية جزائرية، إلا أنهما التقتا في الموت، في مقبرة واحدة، مما يعبِّر عن كثير من قيم التعايش والمحبة التي عرفتْها المنطقة ولا تزال.
قبل دخول العين الصفراء تطالعُك بجبالها الصخرية التي يتمدد في أسفلها جبل رمليّ كبير يسمى"مَكْثر"، مما يجعل الناظر أمام لوحة بهيجة لمدينة تتمدد في حضن رمال دافئة مستلقيةً في سفح جبل صخريّ. واستقْبلنا هنالك بكل كرمٍ ومحبّة مجموعة من أدباء المدينة أخصّ منهم بالذكر الروائيّ قادة ضيف الله، والقاصّ والمترجم بوداود عميَّرْ. وغير بعيد عن العين الصفراء(17 كلم) تطالعك واحة تيوت الغنية بجمالياتها ومواردها المختلفة وعلى رأسها الماء؛ من هنا تسمية "تيوت"الأمازيغية، والتي تعني مجموع العيون، ومفردها "تيت" ومعناه العين الواحدة. وإذْ أنعت الموارد هنا بالجماليات فذاك لأنها ليستْ مجرّد خصائص طبيعية وإنّما هي عناصر فنية تساهم في رسم لوحة تطوّرتْ تفاصيلها عبر آلاف السنين ممثلة صورة حقيقية للاختلاف الذي يعتملُ في أعماق هذه الأرض جاعلا من ملامح العالم تتجدد في كل حين.
دخلنا تيوت بعد الظهيرة تقريبا على يسارنا امتداد عجيب من الجبال الصخرية التي نحتتْها الريح الفنّانةُ على مهل، فكان أنْ تركتْ على رؤوسها أشكالا تتوهّمها العين في كل نظرة ما تريد. وهذا هو ذات الامتداد الذي يؤدّي إلى الواحة. وعلى اليمين كانتْ تيوت الحديثة أبنيتها، والتي تخفي تيوت القديمة جدا، وأقصد بها القصر العتيق الذي سآتي على الحديث عنه. وصلنا إلى الواحة الخضراء التي يشقها نهر يتغذّى من ماء العيون، ويقسم الواحة على ضفتيْن محفوفتين بالنخيل المطلِّ على مرايا الماء التي يحاكي لونُها حمرة المكان وخضرة نخيلاته. وفي هذه الجنّة الخالية تقريبا من آثار الصناعة يوجد واحد من أقدم السدود في إفريقيا(يعود تقريبا إلى1300م)، وهو من شدّة القدم يبدو جزءا طبيعيا من المكان لأنّ آثار يد الإنسان القديم قد أخفتها يدا الريح والماء اللتان تتعاقبان عليها. حتى لكأننا أمام توصيف امرئ القيس لحال الأطلال التي كلما أخفتها ريح جنوبية كشفتها وأجلتها ريح شمالية، إذ قال في معلقته:
فتوضح فالمقراة لم يعْفُ رسْمُها لما نسجتْه من جنوبٍ وشمألِ
وإذْ خرجنا من الواحة تابعنا ذاك الامتداد الصخري المائل إلى الحمرة لنصلَ على بعد أقل من 400م إلى الصخور المنقوشة الموجودة في أعلى جبلٍ هُيّئَتْ له أدراج شبه طبيعية مشكّلة من صخور المكان تحملك إلى أعلاه، وهي واحدة من أزيد من 500 محطة لتلك اللوحات القديمة تركَها الهومو سابيانس الأوّل بولاية النعامة. وإذْ قاربْنا قمته كنّا أمام لوحاتٍ متعدّدة نقشتْها أيدي بشر عاشوا هنا منذ آلاف السنين. وتركوا جدارياتٍ تصوّر حياتهم وأهمّ الأنشطة التي كانوا يقومون بها، ومنها الصيد، والحيواناتِ التي عاشتْ بالمنطقة قديما، ولعل بعضها انقرض أو لم يعد له وجود بهذه النواحي على الأقل. ويظهر في الجدارية الرجل وسلاحه والمرأة والحياة والحيوانات. وإذ تعطي ظهرك للصخور المنقوشة رافعا رأسك باتجاه الأفق ترى جبلا تبرز قمّته على شكل يد معقوفة أصابعها ما عدا السبابة والإبهام، وهو قصر عتيق خرب به معبدٌ قديم مفتوح على الطبيعة، وفيه قبور لبشر مدفونين في جوف الصخور، ويسمّى ذلك المكانُ بالأحلاف.
تركنا الجبل الأثريّ لنتوغّل في البنايات الحديثة عبر طريق طويلٍ سيوصلنا مباشرة إلى قصر تيوت العتيق المتكوّن من طين الأرض ومائها وعرق الأجداد، والذي يعودُ إلى أزيد من تسعة قرون. وهو قصر أمازيغي، يتميّز بأبوابه الثلاثة؛ باب هلال، باب الخناق(المنعطف الضيق)، باب سيدي أحمد بن يوسف. وبرغم أمازيغيّته إلا أنّ تسميات أبوابه تدلّ على كثير من التعايش والاندماج منذ القدم مع عرب المنطقة إذ سمّيتْ أبواب المدينة بقبيلة عربية(بني هلال) وبوليّ صالح(سيدي أحمد بن يوسف). ويتميّز هذا القصر بأزقته المتداخلة الكثيرة التي تفضي جميعها إلى ساحة المسجد، ويسمّيها بعض أمازيغ المنطقة "تاجماعتْ" أو تاشرافين". ولهذه المعمارية دلالات رمزية، فكأنّ من صمَّم تلك الأزقة ترك فيها إيحاءً صوفيًّا بأنّ جميع الطرق، مهما اختلفتْ وتباينتْ، تؤدي إلى الله. وبرغم قدم القصر إلا أنّ عددا من العائلات لا تزال تقيم هناك في بيوتها التي ورثتْها كابرا عن كابر. تمتاز القصور الأمازيغية العتيقة بولاية النعامة جميعا باشتمالها على "الجنان"، وهذا ما يحظى به كذلك قصر تيوت إذْ يحتوي على مجموعة كبيرة من الجنان الغنية بالنخيل ومختلف الثمرات والخضار التي لا تزال تنتج إلى اليوم. فالمجتمعات الأمازيغية التي تأسستْ في هذه الجهاتِ جميعا هي مجتمعات زراعية بامتياز.
غادرنا تيوتَ متجهينَ إلى عين ورقة، تلك الجغرافيةُ البديعة الأقربُ إلى الخيال لما فيها من تجليّات طبيعية عجيبة ابتداءً بمدخلها الذي يفتح أمامك جبالا ذات تشكلاتٍ صخرية وترابية مدهشة تحملك عبر منعرجات كثيرة إلى قلب القرية الصغيرة. كما أنّها من ناحية منطقة بركانية قديمةٌ يؤكّد هذه الصفة فيها مياهها المعدنية التي تخرج من جوف الأرض على درجات عالية من السخونة وانشقاقاتُ صخورها الكثيرة، وقد صارتْ بهذا مقصدا للناس الذي يطلبون التّداوي بمياهها. ومن ناحية أخرى تتصف هذه المنطقة بجبالها المتعددة الألوان، بين أخضر وأصفر وبنيّ مائل إلى الاحمرار، ولعلّ لهذا علاقة بما في الأرض من ملح كثير وكبريت. إضافة إلى بحيرتها التي يكثر فيها البطّ، وتنزل فيها أحيانا بعض الطيور المهاجرة.
تركنا عين ورقة عائدين لقضاء الليلة في تيوت، على أنْ ننطلق في الصباح إلى آخر محطّة في رحلتنا متجهين إلى قصر بوسمغون الموجود بولاية البيّض التي لها حدود مع ولاية النعامة. وذاك ما كان، إذ انطلقنا إليه صباحا تاركين على يسارنا أحد القصور الأمازيغية بقرية عسْلة التي يعيشُ فيها أمازيغ المنطقة المعروفين بالقصور، بالإضافة إلى أبناء سيدي أحمد المجذوب الوليّ الصالح الذي تقام له احتفائية كبيرة مرة في كلّ سنةٍ يتوافد إليها الناس من مختلف المناطق. وصلنا إلى قرية الشّلالة، ومنها مباشرة إلى قصر بوسمغون، لنجدنا أمام التشكيلة ذاتها لقصر تيوت من حيثُ الهندسة والبناء. مما يكشف عن هويّة واضحة الملامح. يتكلّم سكّان بوسمغون، كما سكّان بقية القصور، الأمازيغية، وهي ما تعرف محلِّيًّا بالشّلْحة، كما يتميّزون باهتمامهم بالزراعة، وبامتلاك العائلاتِ لدور في القصر، ولجناناتٍ عامرة بالثمار والماء والحياةِ.
قفلنا راجعين إلى مدينة العين الصفراء لنقضيَ آخر ليلة لنا في فندق "مكثر" الواقع في حضن جبلٍ رمليّ دافئ، ثمّ لنغادر في ذات الصباح؛ أنا إلى مدينتي مشرية، والصديقان بوزيد حرز الله وعادل صيّاد، مواصلان وحدهما، إلى عاصمة البلاد الجزائر، ولنختم بذلك رحلة أدبيّة لاستكشاف جماليّات المكان كانتْ مفعمة بالشعر والموسيقى البهيّة وأحاديث الثقافة والأدب.
*حدثت هذه الرحلة العام الماضي.