يتمثَّل مفهوم الرُّهاب الإجتماعي بسيطَرةِ حالةٍ من التَّرَدُّدِ والتَّهَيُّب تجاه التَّفاعل مع المجتمع، وأثناء التَّفاعل مع المحيط الإجتماعي؛ ومن ثمَّ الإرتباك والتَّلَعْثُم، وصولاً الى حالةٍ من طغيان بعض مظاهر الشعور بالإكتئاب، وصولاً إلى الإنطواءِ على الذَّات؛ وهو مايُعيق عمليَّة اكتساب مهارات التَّواصل الإجتماعي الإيجابي الفعَّال والقدرة على استخدام تلك المهارات على نحوٍ سليمٍ ومتوازنْ، في بيئةٍ من الشُّعور بالثِّقة بالنَّفس، والشُّعور بالأهميَّة الشخصيَّة.
ومثالُ ذلك: الإرتباك والتَّخوف تجاه التَّفاعل مع المحيط الإجتماعي ومشاركته فعاليَّاته المختلفة والمتنَوَعة؛ كالتَّهيب من حضور اللِّقاءَات أو الإجتماعات والمنتديات العامَّة؛ أو الخوف من التَّحدث أمام جمهورٍ من المستمعين أو أمام الإجتماعات والمنتديات العامَّة، وسيطرة حالة من الإرتباك الشَّديد والشُّعور بالعجز التَّام تجاه ذلك؛ أو حتَّى التَّردد والتَّخوف من حضور المحاضرات في الجامعات والمشاركة فيها، أو العجز عن التَّفاعل والمشاركة في بيئة الحياة المدرسة، أو في الصَّف والفصل الدّراسي لدى الطُّلاَّب والتلاميذ في المراحل الدِّراسيَّة المختلفة.
وكذلك يتجلَّى الأمر لدى البعض في تهيُّب الرِّجال وارتباكهم تجاه العلاقة مع النِّساء أو العكس ضمن مناخ العلاقة العاطفيَّة أو الحياتيَّة بشكلٍ عام، وحتَّى التَّهيَب من مخالطة الرِّجال للرِّجال – في بعض الحالات – أو حتَّى النِّساء للنِّساء، في مساقِ الحياة الإجتماعيَّة الإعتياديَّةِ بعمومِها ، وقد يصل الأمر الى تجنب وهروب الأبناء من مخالطة آبائهم، أو تهرُّب الأخوة من مخالطة بعضهم ضمن الأُسرة الواحدة.
إنَّ إحدى أهمّ مظاهر الرُّهاب الإجتماعي؛ تَتَجَلَّى في حالةٍ من الإرتباك العميق والشُّعور بالعجز وعدم الثِّقة بالنَّفس، الَّتي تعتري الفرد أثناءَ التَّفاعل مع المحيط الإجتماعي الخاص والعام؛ أو خلال التَّفاعل مع قضايا المجتمع اليوميَّة، ويحدث ذلك ضمن بيئة الفرد الشعوريَّة وضمن تركيبته وبنيته النَّفسِيَّة ومقدار شعور الفرد بأهميَّتِه الشخصيَّة بالنسبةِ للآخرين؛ وكل ذلك يمكن تفسيره أيضاً ضمن سياق المنظومة الثقافية والتربويَّة والقِيَمِيَّة والعُرْفِيَّة السَّائدة في المجتمع.
•الرُّهاب أو القلق الإجتماعي ظاهرةٌ أصولها نفسيَّة وناتِجُها اجتماعي:
فالرُّهاب الإجتماعي أساسُهُ نفسيٌّ ومظهره إجتماعي، ومن ثمَّ يتفاعل الجوهر مع المظهر ضمن دائرةٍ تفاعليَّةٍ متكاملة من حيث التأثير والتَّعزيز ليصنعا ظاهرة مرضيَّة لدى الفرد.
ذلك ينقُلُنا إلى الحديث عن البواعث النفسيَّة وعن الجذور في البيئة الإجتماعيَّة التي تُغذِّي تلك البواعث.
فما هي البواعث والجذور النَّفسيَّة والإجتماعيَّة الَّتي تؤدِّي الى حالة الرُّهاب أو القلق الإجتماعي لدى الفرد؟:
أولاً: البواعث النَّفسيَّة.. وتتمثَّلُ في:
1: مشاكل في عمليَّة التَّكيُّف في بيئة العلاقات الإجتماعيَّة أو العمليَّة بسبب ضعف الشخصيَّة وانخفاض منسوب التَّوازن النَّفسي، كما يتجلَّى ذلك في ضعف جوانب الذَّكاء العاطفي والإجتماعي لدى الفرد؛ مِمَّا يقلل من منسوب الإستجابة العاطفية والوجدانيَّة مع حاجات الآخرين وضرورات العلاقة بهم، وحتَّى مع حاجات النَّفس العاطفيَّة والمعنويَّة والعمليَّة والماديَّة.
2: طبيعة واتِّجاهات التَّجربة الشَّخْصِيَّة من حيث الكفاءَة أو الضَّحالة، وكذلك ضعف مقدار فهم مغزى وأهميَّة التَّجربة الشَّخصيَّة والإستفادة من الخبرات السَّابقة وتوظيفها، ويتجلَّى ذلك بالشعور باليأس والإحباط تجاه التجارب الشَّخصيَّة الفاشلة؛ مِمَّا يؤدِّي الى استبداد الشُّعور بالعجز، والى سيطرة حالة الخوف الدَّائم من الفشل؛ ومِمَّا يؤدِّي بالتَّالي الى تهميش الحوافز والدَّوافع الدَّاخليَّة وقتل روح المبادرة والإقدام على خوض محاولات وتجارب جديدة.
إنَّها باختصار عوامل ومفاعيل الفشل والخوف من الفشل؛ فسيطرة مشاعر الخوف من الفشل، أكثر أثراً من نتائج الفشل بحدِّ ذاته؛ وهنا يجبُ التَّنويه أنَّ كثيراً من التجارب النَّاجحة قد مرَّتْ بمراحل متعدِّدَة من المحاولات الفاشلة؛ قبلَ أنْ تتكلَّل بالنَّجاح.
3: ضعف الثَّقافة المعرفيَّة، والثَّقافة العامَّة لطبيعة الحياة ولطبيعة بناء العلاقات الإجتماعيَّة الفعَّالة والمتوازنة.
4: سيطرة ديناميكيَّة صناعة الأوهام والمخاوِف داخل النَّفس؛ مِمَّا يؤدِّي الى استبداد حالة من التَّهيُّب تجاه التَّفاعل مع ما هو جديد وغير مألوف، أو فيه درجة من التعقيد من وجهة نظر الشَّخص الَّذي تُسَيْطِرُ عليه ديناميكيَّة الأوهام والمخاوف.
ويؤدِّي ذلك بالنِّهاية الى سيطرة آليَّة التفكير الوَهْمي، والى مظاهر التَّفكير المَرَضي تجاه الظَّواهر والعلاقات الإجتماعيَّة، وحتَّى تجاه النَّفس، ومن مظاهر ذلك سيطرة مشاعر الغيرة والحَسَد والكراهية والحقد والرَّفض تجاه الواقع الإجتماعي، وتجاه واقع العلاقات الإجتماعيَّة بدون مسوِّغ منطقي، أو مبررات واقعيَّة.
ثانيَاً: الجذور المُتَّصِلةِ بالبيئة الاجتماعيَّة:
فأوَّلُ البواعث والجذور الإجتماعيَّة الَّتي تؤدِّي الى نشوءِ وتعزيز ظاهرة الرُّهاب والقلق الإجتماعي لدى الأفراد داخليَّاً ونفسيَّاً تنطلِقُ من عوامل ومؤثِّرات البيئة الإجتماعيَّة العامة بمكوناتها الثقافيَّة والمعرفيَّة والتربوية، وتنبعُ من طبيعة نظرة المجتمع الى الفرد ومن معايير تقييم المجتمع لأفراده.
إنَّها تنبع في الأساس وأوَّلاً من القواعد والمعايير التربويَّة السَّائدة في الأُسرة، وفي مؤسَّساتِ المجتمع بشكلٍ عام، كمؤسَّسةِ المدرسة والجامعة وغيرها من مؤسسات المجتمع الرَّسميَّة والأهليَّة، ومن دَوْرِ تلك القواعد والمعايير التربويَّة في تحفيز الشَّخص أو إحباطه أو قبوله أو رفضه، أو تعزيز ثقته بنفسه أو وأد تلك الثِّقة في مهدها، أو في تعزيز جوانب الشُّعور بالنَّقص أو إقصاءِ تأثيرها ومؤثِّراتها. ويمكنث تلخيص بعضها بما يلي:
1: تعظيم وتعزيز مظاهر وجوانب النَّقص، بفعلِ تأثير البيئة الإجتماعيَّة الخاصَّة، لدى الشَّخص في نظرته تجاه نفسه – كبعضِ السِّمات والمظاهر الجسمانيَّة الَّتي تعتريها جوانب الخلل أو الّتي لا تحظى بإعجاب المحيط الإجتماعي أو يتم إعطائها قيمة متدنيَّة في عمليَّة التَّقييم الإجتماعي، بما في ذلك الجوانب المتعلِّقة بالأصول العائليَّة أوالإجتماعيَّة الطَّبَقيَّة أو المناطقيَّة - وذلك في أثناء الحوار النَّفسي الدَّاخلي الَّذي يجري باستمرار كآليَّةٍ من آليَّات عمل العقل الباطن وكذلك كمظهرٍ من مظاهر نشاط العقل الواعي؛ فيسود الإعتقاد وتسيطر القناعة داخل النَّفس بأنَّه لا يمكنُ تجاوز عوامل النَّقص تلك، وأنَّه لا يمكنُ إقناع المجتمع بتجاوزها؛ مِمَّا يؤدِّي الى خلق حالة مستعصيَة من الإحجام تجاه التَّفاعل مع بيئات اجتماعيَّة جديدة وغريبة عن البيئةِ الأصليَّة الَّتي نشأ فيها الفرد.
2: تعظيم موقع وشأن ومعايير مصادر النُّفوذ والقوَّة في المجتمع على حسابِ تقديرِ واحترامِ المزايا الشخصيَّة الإيجابيَّة للأفراد، والتي تتضمَّن جوانب السلوك الإيجابي المجرَّد وجوانب الفاعليَّة والإبتكار والإبداع:
فهناك عاملٌ نفسيٌّ اجتماعيٌّ يُعزز ظاهرة الرُّهاب الإجتماعي في الأفراد، وهو ذو تأثيرٍ تفاعلي مزدوج ينبع من الشَّخص صاحبُ موقع النُّفوذ على اختلافِ مصادره، فيؤثِّرُ في سلوكه الشخصي والإجتماعي، كما أنَّه يؤثَرُ في غيره من المتعاملين معه بشكلٍ مباشرٍ داخل الأسرة او داخل بيئة العمل مِمَّا يضعهم في دائرة تأثير الإصابة بحالة من الرُّهاب الإجتماعي نتيجة لتفاعلهم مع ذلك الشَّخص المصاب بداء العظمة وبداءِ تعظيم انطباعاته الشَّخصيَّة عن نفسه، ويتَجَلَّى ذلك في:
سيطرة مظاهر المرض النَّفسي الإجتماعي لدى شَّخصٍ مُعيَّن، ذو نفوذٍ وتأثيرٍ ما، ضمن بيئةٍ اجتماعيّةٍ خاصَّة، والَّذي يتجلَّى بمشاعر الكبرياء والتَّرَفُّع الزَّائف، وبمشاعر الغرور والتعاظُم المَرَضي، والتَّوَهُم بمقدارٍ مبالغ فيه من الشُّعور بالأهميَّة الشَّخصيَّة على أساسٍ غير واقعي؛ مِمَّا يدفع بالشَّخص الى التعامل مع الآخرين على قاعدةِ ردود الأفعال بدون سببٍ حقيقي وبلا حكمة أو بصيرة، والى تقييمهم على أساسِ اقتناعهم أو عدم اقتناعهم بالأهميَّة الإنطباعيَّة الموهومة لدى الشَّخص عن نفسه. ويتجلَّى ذلك وباختصار بتعظيم الإنطباعات الشَّخصيّة لدى الشَّخص عن نفسه في تعامله مع الآخرين؛ بحيث يفترِضُ ذلك الشَّخص أنَّ على الآخرين معاملته وفق انطباعاته الشَّخصيَّة عن نفسه فقط بمعزَلٍ عن أيِّ اعتباراتٍ أخرى.
إنَّ أهم المباديء التربويَّة والإداريَّة الفعَّالة والإيجابيَّة المُتّبعة في تطوير الفعالية الشخصيَّة – وعلى سبيل المثال – تكمنُ في تعظيم أهميَّة العمل أو الدَّور الَّذي يؤدِّيه الأفراد في بيئتهم الإجتماعيَّة أو في مؤسسات الأعمال؛ مِمَّا يؤدِّي الى تعزيز الشعور بالأهميَّة وتعزيز عوامل الثِّقة بالنَّفس وإيجاد الدَّوافع وتعزيز دور الحوافز في زيادة الفاعلية الشَّخصيَّة، وفي تعزيز جوانب الأداء العملي والإجتماعي ودعم جوانب المبادرة الشخصيَّة والإبتكار.
ومن بواعث " الرُّهاب الإجتماعي " إجتماعيَّاً، أنَّك تجد المجتمع يُولي أهميَّة لقيمةٍ أو عادَةٍ ما - غيرَ ذي أهميَّة - على حسابِ قيمَةٍ أخرى أكثر أهميَّة؛ مِمَّا يُوقِعُ أفراد ومكوِّنات المجتمع في حالَةٍ من الإنفصام ما بين الإهتمام بما هو ضروري؛ أو الإهتمام بما هو ثانوي؛ وذلك السُّلوك تَكْمُنُ جُذُوره أساساً في منظومةِ التربية وفي الإطار العام لثقافة المجتمع؛ ونجدُ أحدى مظاهر ذلك تَتَجَلَّى في مجاملة ظواهر السُّلوك الإجتماعي على قاعدة العادات والتَّقاليد دون التَّدقيق بمدى ضرورتها أو أهميَّة بقائها كأولويَّة وكناظِمٍ للعلاقات الإجتماعيَّة؛ لذا نَجِدُ أنَّ مجتمعاتنا تغرَقُ في مجاملة الزَّيف على حساب الحقيقة؛ وفي مجاملة مظاهر القوَّة والسُّلطة والثَّراء على حساب الحقائق والحقوق.
بالإجمال، فإنَّ تجاوز حالة الرُّهاب والقلق الإجتماعي، تكمنُ أساساً في فهم بواعثها وجذورها النَّفسيَّة
والإجتماعيَّة – كما أشرنا سابقاً – وتكمنُ في تعزيز جوانب الثِّقة بالنَّفس وفي تجاوز حالات الشُّعور بالخوف والإحباط واليأس والعجز، وفي تعزيز جوانب الكفاءَة والفاعليَّة الإجتماعيَّة وتعزيز عوامل القدرة على التَّكَيُّف الإجتماعي بإقصاء مفاعيل الأوهام والتَّهيُّب والمخاوف من الإقدام على التَّفاعل مع المحيط الإجتماعي عاطفيَّاً ووجدانيَّاً وعمليِّاً.