أشعلت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ومخططات حكومة نتنياهو اليمينية بتقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً هبة فلسطينية غاضبة مازالت مستمرة منذ أكثر من شهر ضد الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية.
وإذا كان الاعتداء على الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية هو الشرارة التي أطلقت هذه الهبة-الانتفاضة، فإن عوامل قد تظافرت معا لتُزكي نارها وتُوسّع المواجهة مع المحتل وتفجر الوضع القائم والهش الذي بات لا يطاق، وأهم هذه العوامل:
أولاً: غياب المفاوضات السياسية وتراجع الأمل لدى الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني بإيجاد حل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يقوم على حل الدولتين، فالعالم أجمع منشغل اليوم بمعارك دونكيشوتية مع طواحين الهواء مع داعش ومشتقات القاعدة من البيت الأبيض إلى الكرملين. وأكثر ما تطمح إليه واشنطن هو عودة الهدوء في الأرض المحتلة إلى سابق عهده، وليس إطلاق مفاوضات ذات مصداقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ فتأثير إدارة على حكومة نتنياهو يكاد يكون معدوماً، رغم إيمان الجانب الفلسطيني بالسلام، وإيجاد حل للصراع عبر المفاوضات.
ثانيا: تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الأرض الفلسطينية المحتلة وخاصة انسداد الأفق أمام شريحة الشباب في حياة كريمة وحرة ومستقرة، وهم اليوم وقود هذه الهبة- الانتفاضة، يواجهون المحتل بصدور عالية وبحجر في اليد وإرادة من الفولاذ ترفض الواقع الذي يعزز دوام الاحتلال وتفرض على الشعب الفلسطيني ضرورة التلاحم وتصحيح المسار والوحدة الوطنية حول هدف واحد هو دحر الاحتلال.
ثالثاً: غياب الصوت الإسرائيلي المعتدل واختفاء معسكر السلام وهيمنة المتطرفين المتدينين والمستوطنين على الحكم في إسرائيل فالمعارضة العمالية تتماهى في مواقفها مع موقف نتنياهو وأركان حكومته، ويقف هرتسوغ ولابيد وحزبه خلف رئيس الحكومة في سياسة الحل الأمني. ولم يعد هناك برنامج سياسي لأي من أحزاب المعارضة في إسرائيل يتعارض مع تصور نتنياهو ومخططاته لحل الصراع مع الفلسطينيين، ويقوم هذا الحل على مزيد من القتل والإعدامات الميدانية والاعتقالات، ومزيد من الاستيطان ومصادرة الأرض، وتغيير معالم فلسطين من المسجد الأقصى وقبة الصخرى المشرفة، إلى كنيسة المهد والقيامة، وكسر إرادة الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
رابعاً: انشغال العرب حكاماً وشعوباً ودولاً عن القضية الفلسطينية، القضية المركزية، للأمة العربية منذ بدايات القرن الماضي، وبات الشأن القطري الداخلي لكل قطر ودولة هو الأهم. وما تشهده هذه الأقطار من تفكك للدولة وقتل ودمار وتهجير ينذر بما هو أسوأ وينذر بشرق أوسط جديد تختفي فيه حدود الدول القائمة والمعروفة اليوم، وتظهر حدود جديدة وفق آخر الأنباء والتقارير الواردة من أجهزة الاستخبارات الغربية.
صحيح أن هبة القدس والأقصى حركت المياه الآسنة في العواصم العربية لبعض الوقت لكن مشاغل أهل اليمن بمصائب يمنهم، ومشاغل أهل العراق بكوارث عراقهم وما ينتظره من مخططات تقسيمية، ومشاغل أهل سوريا بدماء بلدهم وهجرة شعبهم والمجازر اليومية التي تلاحقهم، شغلتهم عن فلسطين وعن الأقصى والقدس، وإن رفعوا صوتهم عالياً لبعض الوقت، فإن صوت قذائف الطائرات والمدفعية الثقيلة والسيارات المفخخة والعمليات الانتحارية تطغى على أصواتهم المنتصرة لفلسطين ولهبة القدس والأقصى.
وإذا اقتصر ذكرنا على اليمن والعراق وسوريا كأمثلة صارخة لما تعانيه الأمة العربية ودولها من ويلات وحروب، فإن مصر قلب الأمة العربية ورافعة النضال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني لعقود، والتي خاضت أربعة حروب من أجل فلسطين وحرية مصر معاً، تشكوم اليوم من ألم أمني داخلي وخارجي، يؤثر سلباً على قدرتها في التركيز على قضية فلسطين والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والحال كذلك في ليبيا وتونس والسودان والجزائر والبحرين والصومال...إلخ.
هذه عوامل دفعت شباب فلسطين إلى مواجهة المحتل الإسرائيلي بالحجر وبإرادة من فولاذ ترفض الواقع الذي يعزز دوام هذا الاحتلال البغيض والكريه.