بقلم: رائد دحبور
امتزجت قصَّة الاستيطان على الدَّوام بالأسطورة، أسطورة التَّاريخ والنبوءَة التي تُحقِّق ذاتها وأسطورة الانبعاث وتحقيق المعجزة، وامتزجت دراما الاستيطان بثنائيَّة مجموعات المصالح من مُستثمرين ورجال أعمال ومراكز قوى اقتصاديَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة ودينيَّة وبالطُّموح الشَّخصي لقادة المجتمع الإسرائيلي من جهة، وبالسِّياسات الرَّسميَّة المراوغة للحكومات الإسرائيليَّة على اختلافها، وبالشَّهادة الدَّوليَّة والتَّفرُّج العربي على ذلك من جهةٍ أخرى.
إنَّها القصَّة التي تبدأ دائماً بتطبيق مفهوم " الحُومَا والمِغْدال " – بمعنى السُّور والبرج – وبالمبدءِ الأسطوري المتَّصِلِ بـ " العودة إلى أرضِ الآباء والانبعاث من جديد ". فالسُّور هو ذلك السِّياج الَّذي تولَدُ خلفه مستوطنة، والبرج هو ذلك المكان والتَّلة المُرتَفِعة المُشرِفة، الَّتي توفِّر السيطرة تمهيداً للعودة والانبعاث، وقد واكبت تلك المبادىء والمفاهيم حركة الاستيطان منذ نهاية العشرينيَّات وبداية الثلاثينيَّات من القرن المنصرم في ظلِّ الانتداب البريطاني، واستمرت واتَّصلت بعد حرب عام 67.
فقد كان الاستيطان في قلبِ جدول الأعمال الإسرائيلي على مدى خمسة عقود من عمر الاحتلال، وفي صلبِ اهتمام عشرات الحكومات الإسرائيليَّة المتعاقبة الَّتي تأثرتْ بحركَتِه وبقواه الدَّافعة وبمفاعيله على الأرض وأثَّرتْ في مساراته وسياقات تطوره وحركتة ومقدار كثافته على حدٍّ سواء.
وذلك ابتداءً من حكومات ائتلاف أحزاب اليسار من " رافي " و "ماباي " و "حركة العمل" –والتي شكَّلت فيما بعد تجمُّع " المعراخ " وانبثق عنها فيما بعد حزب العمل، نهايات السِّتينيَّات وبداية السَّبعينيَّات من القرن الماضي، وبالكثيرِ من رموزهما ابتداءً بـ " بن غوريون " و " ليفي أشكول " وكذلك مِمَّن تركوا بصمات واضحة في مسار بداية الاستيطان مثل: " إيغال ألون " و " موشيه ديَّان " و " يسرائيل غَليلي " و " شمعون بيرس " مروراً بالرُّموز التي جاءَ بها الانقلاب السِّياسي الَّذي حدث في إسرائيل في أيَّار عام 1977بفوز أحزاب اليمين وعلى رأسها اللِّيكود في الانتخابات العامَّة – والَّذي جاءَ ليسَ بمعزِلٍ عن تنامي تأثير حركة الاستيطان في المجتمع الإسرائيلي التي أسهمت شخصيَّات اليسار في تعزيز مكانتها بعد حرب عام 67 مباشرة – تلك الرُّموز من أمثال " مناحيم بيغن " و "إرئيل شارون " و " إسحق شامير " و" غيئولا كوهين " و " حنان بورات " و " زبولون هامر "، وليسَ انتهاءً بـ " بنيامين نتنياهو " و " نفتالي بينت " و " موشيه يعلون " و " داني دايان ".
وكمثالٍ على امتزاج القصَّةِ بالأسطورة: ففي مَعرضِ ردِّه المباشر على اعتراضات الرَّئيس الأمريكي الأسبق " جيمي كارتر " قال " مناحيم بيغن " بعدَ أنْ ألقى بخطابه وفي حفلٍ صاخبٍ وفورَ فوزه في انتخابات عام 1977 وبرفقةِ كلٍّ من أرئيل شارون وغيئولا كوهين من الليكود وزبولون هامر من المفدال من على تلَّةِ " قَدوم " المُقفِرةِ – والَّتي أصبحت تُعرَف فيما بعد بمستوطنة " قَدوميم " بالقرب من نابلس، و" قدوم " تلك التلَّة التي وفَّرها وزير الدِّفاع في حكومة المعراخ السَّابقة " شمعون بيرس " وبالتَّوافق مع رئيس الوزراء " إسحق رابين " كبديلٍ عن محاولة الاستيطان الإشكاليَّة والعشوائية في محطَّة القطار القديمة في سبسطية، والَّتي انتقلَ إليها وخيَّمَ ونامَ فيها مطلع عام 1977 بضعة مستوطنين من طلائع حركة " غوش إمونيم الاستيطانيَّة " واستجلبت محاولتهم تلك ومحاولة إخلائهم من قبل قائد المنطقة العسكري؛ تنظيم تظاهرة ضخمة تضامناً معهم، مِمَّا دفعَ بوزير الدِّفاع "شمعون بيرس" أن يهبِطَ هناك بالمروحيَّة، واعداً إيَّاهم بتوفير البديل عن الاستيطان في محطَّة القطار في سبسطية، وعلى أنْ يكون ذلك جزءاً من حركةِ العمل التي كان بيرس يؤمن بها، فكان ذلك على تلَّةِ " قدوم " بجانب موقعٍ عسكريٍّ أردني سابقٍ احتله وشَغَلَه الجيش الإسرائيلي بعد حرب عام 67 ، فقد قال " بيغن " بعد خطابه من على تلك التَّلة بعيد فوزه في الانتخابات، وفي ردِّه المباشر وعبر رسالةٍ رسميَّة للرَّئيس الأمريكي:
" إنَّكَ تَتَحدَّثُ عن قصَّةٍ سياسيَّةٍ عمرها بالنِّسبةِ لكَ عشرُ سنواتٍ فيما نحنُ نتحدَّثُ عن قصَّةٍ تاريخيَّةٍ عمرها ثلاثة آلاف عام، وفي بلادِكَ العديد من الأمكنة التي تحملُ أسماءً من ارضِ إسرائيل كبيت لحم والخليل وشيلو، وإنَّكَ لا تستطيعُ أنْتَ وحكَّام ولاياتك أنْ تمنعَ أيَّ يهوديٍّ من رعايا الولايات المتحدة أن يسكنوا تلك الأماكن، فكيفَ بكَ تُطالبنا بأنْ نمنع أبناء الشَّعب اليهودي من الاستيطان في الأماكن الأصليَّة التي تحملُ ذات الأسماء الأصليَّة !! ". والغريب في الأمر أنَّ " كارتر " وفي نهاية الأمر طلبَ من " بيغن " ضرورة عدم بناء مستوطنات جديدة مع موافقته على توسيع المستوطنات القائمة !! وهكذا استمر سياق السياسة الأمريكيَّة المُعلنة فيما بعد تجاه الاستيطان وحتَّى الآن، فيما تمَّ بناء أكثر من مئةٍ وعشرين موقعٍ استيطاني منذ ذلك الحين، وحيث تضاعف عدد المستوطنين ليصِلَ إلى مئات الآلاف في ظلِّ عمليَّة التسوية التي رعتها الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة !!.
ولم يكن عام 1977بطبيعة الحال هو بداية الحديث عن الأسطورة، فقد تحدَّثَ قبلها " إيغال ألون " عن الاستيطان كضرورةٍ من ضرورات الانبعاث والسيطرة، وقال ذات مرَّة : " لا يمكننا تصوُّر إسرائيل بدون الخليل ولا يمكننا تصور الخليل بدون الاستيطان اليهودي في قلبها " وتحدَّث كذلك موشيه ديَّان في مشروعه المعروف " بالأصابع السِّتة " الَّذي يتضمَّن ضرورة استيطان القمم العالية للجبال الجنوبيَّة فوق المنحدرات الغربية للضفَّة الفلسطينيَّة، وتحدَّثَ " شمعون بيرس " عن الاستيطان في مرحلة السبعينيَّات كجزءٍ من حركة العمل اليهودي، وكمظهرٍ من عودة إسرائيل إلى روحها الأصيلة.
وقد كانَ الاستيطان في قلبِ الخليل وفي " كفار عتصيون " جنوب القدس والَّذي كان في طليعة المنادين به كلّاً من " موشيه ليفنغر " و " حنان بورات " و " فريدمان " والحاخام " كوك "، يُساقُ كجزءٍ من ضرورة العودة إلى المناطق الَّتي غادرها اليهود في أعقاب أحداث عام 1929في الخليل، وإلى " كفار عتصيون " الَّتي غادروها كإحدى نتائج حرب عام 1948، وقد حظيت تلك المبررات تحديداً بدعمٍ كبيرٍ من أبرز شخصيَّات اليسار الإسرائيلي في مرحلة ما بعد حرب عام 67 مثل " إيغال ألون " و " يسرائيل غاليلي " وكذلك " موشيه ديَّان " وليس بعيداً عنهم " شمعون بيرس ". وكان الاستيطان المبَكِّر في " عوفرا " إلى الشَّمال من القدس والشَّرق من رام الله مقدِّمةً وقاعِدَةً لتكثيف الاستيطان في الجبال بين القدس ونابلس وصولاً إلى تكريس واقع الكتل الاستيطانيَّة الضَّخمة في " ألون موريه " و " أريئيل ".
وبخصوصِ " عوفرا " وكما يذكُرُ كلٌّ من " عقيبا إلدار " و " عَديتْ زرطال " في كتابهما المُهمُّ " أسياد البلاد " الصَّادر عام 2006 فقد كان تعقيب وزير الدِّفاع " شمعون بيرس " وفي تعليماته لقائد المنطقة الوسطى بعد الوساطة التي قام بها " حنان بورات " لديه ولدى وزارة الدِّفاع بخصوص سيطرة مجموعة من " غوش إمونينم " على تلّةِ " عوفرا " عام 1976 بحجّةِ المبيت هناك للمساعدة في بناءِ القاعدة العسكرية المجاورة :
" إتركوهم.. لا تُساعِدوهم لا تُزعجوهم، ولكن قدِّموا لهم محوِّلاً للكهرباء، فليسَ من المعقول أنْ يبيت عشرة فتية على التّلَّةِ هناك في العتمة ثمَّ يتعرَّضون للهجوم فَيُقالُ في إسرائيل إنَّ الحكومة عجزت عن حماية عشرَةِ من اليهود ينامون على تلَّةٍ، بجانبِ موقعٍ عسكري !! ".
وفي ذات السِّياق يقول الكتاب: " إنَّ عوفرا هي قصَّةٌ أخرى، إنَّها مستوطنة العلم، يسكنها أبناء العائلات الأصليَّة وهي مستوطنة جماعيَّة نخبويَّة تمتاز ببيئةٍ إنسانيَّة أيديولجيَّة، وفي هذا الإطار صرَّح - يسرائيل هرئييل – الشَّخصيَّة الأبرز في " عوفرا " هناك اعتقادٌ راسخٌ بأنَّ ما قمنا به كان من أجلِ شعب إسرائيل، وفي حقيقةِ الأمر فإنَّنا نعملُ من أجلِ مُعتقداتنا – معتقدات الحاخام " كوك " – ومن أجلِ مصلحتنا ومصلحة المجموعات التَّابعة لنا فقط. وأضاف: إنَّ طريق إجماع الوسط قادَتْ المستوطنين دائماً إلى التَّحالف مع حزبِ العمل الَّذي يحنُّ إلى قيمه، وفي هذا السِّياق ذكرَ " بنحاس فينشتاين " أنَّ القيم بالنِّسبةِ لي هي " إيغال ألون " والجانب العملي هو " شمعون بيرس ".
وفي ذات السِّياق أيضاً ينقلُ الكاتبانِ عن " فليرشتاين " رئيس المجلس الإقليمي - بنيامين – قوله: عن قصَّةِ الحاخام الَّذي جاؤوا إليه في منتصف الليل للتشاور حول موضوع إخلاء بعض المستوطنات، حيثُ قال لهم: ( لا تَلْمِسوا ولدي !! ) والولد بلغة الحاخام هي دولة إسرائيل.