الفرد الإنساني مجموعةُ مواقفٍ، هي باللزوم نتيجةُ قناعاتٍ سابقةٍ، هذه القناعات التي تتولّد بعد جملة من المكاسب التربوية والمعرفية عبر مختلف مراحل النمو، لهذا رأيت أن يكون مقال اليوم حول الفرد الإنساني ومواقفه، تزامنا مع ما اصطُلِح عليه بتسمية "عمليات باريس"، هذه العمليات التي حدثت في تلك الجمعة من شهر تشرين الثاني لهذه السنة، العمليات الدموية التي أريدَ لها أن تكون الشجرة التي تغطي الغابة، وأعتقد أن أصحابها المخططين لها قد نجحوا إلى حد بعيد في ذلك، حيث غطت بالفعل غابة البشرية التي أمسى ظلامها يمتد شيئا فشيئا يسدّ منافذ النور.
فجأة وكأن التقتيل كفعلٍ حديثٍ، أول ما حدث، حدث في باريس، وكأن سوريا جنة الرب في أرضه، وكأن اليمن يوتوبيا تختال، وكأن ليبيا دوحة فيحاء، والعراق، وأفغانستان، ومالي، وكأن أولئك المنسيين بفعل التغييب، أولئك أهل بورما الذين يُقَتَّلون في صمت مَقيت، هم أنفسهم يتناوبون ما بينهم رغائد الحياة.. وقبل كل من ذكرت وبعده، "فلسطين" التي يخجل أمامها الإنسان من إنسانيته، بل ويخجل من انتمائه إلى الخالق.
فجأة وكأن التقتيل فعل طارئ، لا يعرفه البشر، وأول ما ضرب، ضرب باريس، أو ربما أهل باريس هم من البشر، بينما من سواهم، مجرد أشياء على ظهر هذا الكوكب، أشياء مملة ركيكة تدعو إلى الغثيان، لذا كلما انتهى شيء منها كانت سعادة أولئك البشر في باريس وأمثالها.
وما على هذه الأشياء إلا التنديد وإعلان التضامن الإنساني، بل والتخلي عما تبقى لها من ماء وجهٍ، وارتداء لون باريس، لغةَ وعَلَماً وانتماءً.
مع أن الفرد الإنساني مجموعة مواقف، إلا أنه أيضا مجموعة نسيانٍ، وبهذه المناسبة أتحدث هنا عن واقعة جرت أحداثها منذ ما يزيد عن القرن والنصف، حادثة ترك صاحبها "مثلا" ما يزال رنينه في ربوع الجزائر، صاحب الحادثة هو المدعو "محمد بن داود" هذا الجزائري الذي باع وطنه وانخرط في جيش فرنسا الاستعمارية في القرن التاسع عشر، وتدرج في الرتب حتى وصل إلى رتبة "كولونيل"، هي رتبة عالية، مما مكّنه من الحصول على الجنسية الفرنسية. وذات حفلة راقية راقصة صاخبة، أقامها الفرنسيون، تم منعه من دخولها، عندها وقبل أن يقتل نفسه، قال الكلمة التي أصبحت مَثَلا، قال: "العربي يظل عربيا ولو كان الكولونيل بن داود".
توالت السنين، وعِوَض أن يختفي أمثال هذا الكولونيل من الوجود، إلا أننا بعد عمليات باريس، اكتشفنا العكس تماما، اكتشفنا أن الكولونيل بن داود ومن تحت الثرى، قام بعمليات تفريخ شديدة، جعلت من الآلاف ينزعون عنهم لباسهم الطبيعي، ويزايدون على إخوانهم في الأرض والدم والمصير، وعندما نقول الأرض والدم والمصير فنحن نقصد كل ساكنة مشرقنا ومغربنا، كل أعراقنا الضاربة جذورها في التاريخ "آشور وكلدان وسريان وأمازيغ وعرب وغيرهم"، يزايدون عليهم باسم الإنسانية، هذه الإنسانية المذبوحة في كل شبر من الأوطان التي ذكرناها في بداية المقال، وحتى أوطاننا التي لم نذكرها هي مهددة.
ربما نحن "مَن ذكرت أعلاه"، علينا إعادة الحسابات في كل شيء، لا نستثني، حتى يكون لمجموعة المواقف التي نقفها مصداقية مع ذواتنا قبل غيرنا، وحتى نجعل لآلة النسيان مِكبَحا، وحتى نتوقف عن انتظار الآخر كي ينصفنا، هذا الآخر الذي هو سبب مآسينا، مآسينا التي نحن فيها سببٌ قبل الآخر، كما أعتقد أنه ومع كل حادث، تسقط أقنعةٌ، صحيحٌ أنه تسقط أقنعة لكن المشكلة، هي في أعيننا التي نريدها على الدوام مقفَلةً.
ما لم ننظر إلى الحادثات بتجريد، وننظر مَن المستفيد منها، وتوقيتها، ونربطها ببعضها، سيظل في كل مرة يخرج لنا "كولونيل بن داود".