خاص "الحدث"- محمد هليّل
الاحتلال الإسرائيلي منذ أن وطأت قدمه الأرض الفلسطينية، لم يترك وسيلة إلا واستخدمها بطريقة ممنهجة للإرهاب والقتل والتدمير والتشريد، مستخدما الوسائل القتالية الماديّة والسياسيّة اللوجستية رغم اتصال الاثنتين برباط وثيق، والهدف واحد.
قصف عشوائي براً وجواً وبحراً، واجتياحات واغتيالات طالت العديد من الشخصيّات الفلسطينية التي يرى الاحتلال بأنها تشكّل خطراً عليه سواء من القيادات أو الأفراد، داخل فلسطين وفي أي مكان في العالم بالتخطيط والاستخبار والتنفيذ وربط زمام الأمور بعد ذلك، متسلحاً بقناعة (اضرب القائد تقهقر المَقود). ولا يقتصر الأمر على قتل بالرّصاص فقط، بل يتعداه لحشي جهاز الهاتف بالمتفجّرات كما فعلت بالمهندس يحيى عيّاش عام أربعة وتسعين، أو ربّما بأساليب غير عسكريّة كالتسميم مثلما اغتالت الشهيد وديع حداد بالشوكولاتا، وغيرها.
محمد الضّيف، القائد العام لكتائب القسّام، والمطلوب الأهم لإسرائيل، تحدثت تقارير ووسائل إعلام اسرائيليّة عنه كثيراً، كان آخرها بعد خطاب مسجّل له قبل نحو الشهر، جاء فيه أن الضيف ابن الخمسين عاماً، قاد المعركة ضدها لأكثر من ثلاثين عاما وهو ما جعل من حماس تنظيما عسكريا قوياً ومرصوصاً في وجه المخاطر بعد أن كانت مجرّد جماعات مسلّحة، وكان الضيف قد تسلّم زمام القسّام بعد اغتيال القائد عماد عقل عام ثلاثة وتسعين، والمهندس يحيى عياش عام خمسة وتسعين، وهو المسؤول عن اختطاف الجندي ناخشول فاكسمان عام أربعة وتسعين كرد على مجزرة الحرم الابراهيمي.
الضيف تعرض لخمس محاولات اغتيال كان ينجو منها بأعجوبة حسب وصف الاحتلال، لقدرته الكبيرة على التخفّي والهروب من محاولات التجسّس، عام ألفين وستة قصفت سيارة كانت تقله لأحد بيوت العزاء، فأصيب بالشلل على اثرها بعد أن تم تهريبه بأحد الأنفاق وعلاجه، وظل بعدها يدير القسّام لوجستياً وميدانياً .
رغم سريان تهدئة اضافيّة لأربعٍ وعشرين ساعة، قامت طائرات الاحتلال أمس الأربعاء بقصف منزلٍ لعائلة الدلو في خانيونس، بعدد من قذائف شديدة الانفجار ومخترقة للملاجئ من عيار GBU-28 حسب تصريحات الاحتلال، الأمر الذي دفع المقاومة الفلسطينية للرد بقصف مدن وبلدات الاحتلال بصواريخ متنوعة، معلنة انتهاء التهدئة ومهددة بالرد، لا سيما وأن قصف الاحتلال ترافق مع انسحاب وفده المفاوض من القاهرة دون نتائج، ولَم يخفَ الخبر طويلاً حتى خرج بيان لكتائب القسام تتحدى فيه الاحتلال بالكشف عن السبب الحقيقي لقصف منزل عائلة الدلو، بعدها صرّح موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي لحركة حماس بأن الاحتلال حاول اغتيال الرجل الأول في كتائب القسام محمّد الضيف لكنّه فشل واستشهدت زوجته وابنه.
الخبر الذي جاء وقعه على متابعي الأحداث في القطاع، أثار العديد من الأسئلة حول وصول الاحتلال للمنزل الذي كان فيه الضيف وهل نجح الشاباك الاسرائيلي في إمساك خطأ أوقع الضيف نفسه فيه بعد انتظار طال لسنوات، كما وقع ذراعه الأيمن أحمد الجعبري والقيادي البارز في حزب الله عماد مغنيّة عام ألفين وثمانية، والسؤال الأبرز، ماذا لو أغتيل قائد القسّام ؟
الخبير العسكري وصفي عريقات في حديث خاص مع "الحدث" قال إن محاولة الاغتيال شيء متوّقع من الاحتلال الاسرائيلي في أي لحظة ولأي فلسطيني، وهو الآن يلجأً لمحاولة النيل من معنويات الجبهة الداخلية الفلسطينية عبر الاغتيالات بعدما كانت ضرباتها مرتكزة على المدنيين في القطاع دون إضعاف معنويات المواطن الغزّي، وقد فشلت أمنياً واستخباراتياً في محاولتها لاغتيال الضيف لأنها تعلم جيّدأ أن رجلاً بوزن محمد الضيف لا يمكن أن يتواجد في مكان كالذي قُصف أمس، ولذلك لجأ لقصف المدنيين لأنه يدرك أنه صعوبة اخفاء عائلات المقاومين في غزّة.
إسرائيل كانت وما زالت تستهدف قيادات المقاومة في محاولة لضرب رصانة المقاومة في غزّة، وحين يفشل سيلجأ لقصف المدنيين وسفك المزيد من الدماء كحال مجازره بعد كلّ عمليّة نوعيّة للمقاومة.
القتل والحرب لا علاقة لهما بالمفاوضات ودائما حين يرى الاحتلال أن الطريق مفاوضاتياً قد وصلت إلى باب مسدود، فإنه يسعى لقلب الطاولة محاولاً فرض المزيد من الضغط ، خاصة بعد فشله في تحقيق ما روّج له بداية الحرب بحصاد صيد ثمين.
الضيف له قيمة كبيرة ورجل ميدان ومخطط بارع لكن الفلسطينيين اعتادوا أن تكون قياداتهم في الميدان وأنهم معرضون لمحاولات اغتيال، ولكن هذا غيّر من طبيعة الشيء المتعارف عليه بأن تكون القيادة بيد رجل واحد
الاعلام العبري تحدّث عن عملية اغتيال الجعبري بتفاصيلها الدقيقة، من اتخاذ القرار الى مشاورات القادة وكيفيّة الوصول الى اللحظة الحاسمة للتنفيذ مشيراً أن الحركات المقاومة قد اعتادت هذا النسق من تصفية القادة، ما يجعل اغتيال قائد كبير أمراً ليس بالمدّمر للحزب ومعنوياته، هناك شخوص مجهّزون ومدرّبون لتولي زمام الأمور بعد فجوات قيادّيّة كهذه.
ماذا لو أغتيل الضّيف، كيف سيكون الرّد ؟
يقول عريقات إن المقاومة في غزّة كشفت العديد من المفاجأت التي أربكت الاحتلال، من الأسلحة والصواريخ والطائرات والضفادع البشريّة، وصولاً لنوع آخر من التحدّي وهو الاستخباراتي كأن تكون المقاومة على علم مسبق بما ينوي الإحتلال فعله ما يجعل تجنب حصوله أمراً ممكناً حفظاً للأرواح بالدرجة الأولى ويمكننا القول أن الحرب الأن اتخذاً منحىً جديداً استخباراتياً، ما يضيف نقطة في صالح المقاومة الفلسطينية في مواجهتها مع الإحتلال، وتوقّع أن يكون ردّ القسّام على اغتيال شخصيّة بهذا الوزن أمراً يدفع للكشف عن المزيد من الضربات كماً ونوعاً بما هو معروف وخفي، والمقاومة تعرف كيف يكون ردّها بحجم الحدث، لا سيما في فترة متراخية من المفاوضات في القاهرة.
يقول محلّلون إن المقاومة في غزّة تطورت بشكل كبير عملياً ولوجستياً، وهذا يعود لكثير من الأسباب كالأنفاق من حيث القدرة على ضرب العدو والتخفّي بأقل الخسائر، إضافة للتدريب المكتسب على أكثر من صعيد كالتدريب الإيراني أو لطبيعة الصراع المتناوب على القطاع كل عامين تقريباً ما يجعل المكان والزمان أمراً أكثر فهما، وكيفية التعامل مع ردّ فعل العدو لتجنبه وايقاع أكبر قدر من الخسائر فيه.
القيادي في حركة حماس، سائد أبو البهاء، قال إن القسّام وحده الأقدر على الإجابة على أسئلة التوقّع للأحداث، ماذا ينوي وكيف وما الحجم، والوقت المناسب، لكنّ المقاومة الفلسطينية في الحرب الراهنة أظهرت بشكل واضح أنّها قادرة على الرّد بشكل يزرع مسماراً في نعش الدولة اليهوديّة إن قامت بعمليّات كهذه، جيش القسّام معدّ ومدرّب لتحرير الأرض وليس فقط لصد عدوان على القطاع.
موقع تيك ديكا العبري والمقرّب من الاستخبارات العسكرية الإسرائيليّة قال إن محاولة الاغتيال جاءت كنقطة حسم وانهاء للحرب المستمرة في يومها الخامس والأربعين، وقدرتها على الوصول لأي قسّامي عسكريا واستخباراتياً، ناهيك عن صدى الانتصار المتوقع في الشارع الاسرائيلي بضربة كهذه، إلّا ان الاستخبارات الاسرائيلية تفاجأت بنجاة الضّيف، لكنّها حاولت تجميل العمليّة بالوصول لعائلة الضّيف وقتلها.
يقول متابع للإعلام العبري، أحمد شديد، منذ اللحظات الأولى لقصف عائلة الدّلو تناقلت معلومات كثيرة حول هذا الموضوع رغم التحفظّات الأمنية الكبيرة في النشر، بدءاً بخبر اغتيال الضيف حتى سارع الجهاز الأمني الأسرائيلي بالكشف عن العملية ومن استهدف فيها، لا بهدف التأكيد فقط، بل لقدرة أخبار كهذه العمل على رفع معنويات الجبهة الداخليّة الإسرائيلية على عكس ما اعتاد فعله في حال الكشف عن جنود قتلى أو عمليات للمقاومة، ولم يلمّح لفشل العملية بقدر تمجيد الطريقة الاستخباراتية التي أوصلته للرأس الأول في القسّام وعائلته كانجاز استخباراتي كبير.
في عادة الأمر، الأخبار المتحدثة عن انجاز سياسي اسرائيلي أو عسكرية، تُنشر أسرع من تلك المتعلّقة بأحداث أمنية تمس الدولة، لأسباب أهمها التحّفظ على سريّة المعلومات ومعنويات الجبهة الداخلية كأخبار القتلى، وقد تكون أيضا لشحّ المصادر المقرّبة من الجهاز الاستخباراتي الاسرائيلي، فيقول المختص بالإعلام العبري عادل شديد حسب اعتقاده، ان هناك شح للمصادر خاصة ان الاعلان عن استشهاد الضيف يشكل نصرا اسرائيليا امنيا وسياسيا ومعنويا واعلاميا ولو كان لديهم معلومات دقيقة حول استشهاده لكانوا قد اعلنوها لكونها ترفع من معنويات الجبهة الداخلية عندهم، واعادة مكانة ننتنياهو والجيش للصدارة في المجتمع الاسرائيلي، لا سيما وأن مكانة هذه المكانة قد تراجعت كثيرا بعد شعور واحساس المجتمع الاسرائيلي باخفاق الجيش والحكومة من تحقيق الاهداف في الحرب الحالية وعدم قدرة الجيش على منع سقوط الصواريخ على عليهم
استاذ العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، عبد الستّار قاسم، رأى أن محاولة الإغتيال جاءت كنقطة حاسمة للحرب حسب ما يراه الاحتلال ولكن اغتيال قيادي بحجم الضّيف سيؤثرسلباً بشكل كبير على صعيد الجبهة الداخليّة الفلسطينية والحركة المقاومة، الا أن المفاوضات ستبقى سواء باغتياله أو دون ذلك ولكن بوتيرة أقل ضغطاً من حيث مطال المقاومة، فيما كانت وجهة نظر القيادي في حماس أبو البهاء، بأن مطالب المقاومة لا يمكن أن تتأثر بأي عامل كهما حصل، لأنها قد كٌتبت بدماء الشهداء، وهذا ما لا نقاش فيه أو جدل.
وأكمل قاسم، لكن السؤال المطروح شعبياً الأن، لماذا يخطئ الضيف كهذا الخطأ، رغم أنه الأكثر حذراً، ولا يمكن نفي الاحتمالات حول مصيره الا بخروجه بتسجيل أو بوسيلة أخرى لنفي ما يتداول من شائعات حول المس به، لا سيّما وأن عمليّة الوصول له استخباراتياً لا يمكن أن تتم دون الاستعانة بالجواسيس، وغزّة بطبيعة الحال لا تخلو تماماً منهم
اضافة الى أن العمليّة السيّاسيّة ربّما تتأثر لحدث كهذا خاصّة وأن القائد الذي سيحل محل الضّيف بحاجة للتأقلم وفهم الأمور عن تجربة على مختلف الأصعدة، من المقاومة وتدبير شؤونها وحتّى مجريات التواصل مع الطرف الأخر السياسي .
حتى مساء الأمس كانت أسئلة عديدة تخطر ببال الجميع حول مصير الضيف، إلى أن خرج الناطق الاعلامي باسم القسام أبو عبيدة ليؤكّد على فشل محاولة اغتياله، واليوم تعود الاستخبارات العسكرية الاسرائيليّة للتأكيد على ضرورة الاغتيال لقادة المقاومة في غزّة، أبرزهم هنيّة والزّهار، ولا بأس بمحاولة سادسة محمد الضّيف .
والأسئلة ما زالت تتردد حتّى الآن، لماذا لم يخرج الضيف بنفسه ليؤكد سلامته، وكيف وصل الاحتلال اليه وفشل، وماذا لو أغتيل، وهل حقاً ستنهار معنويّات المقاومة حال حدوث ذلك، أم أن رداً قوياً بحجم الضيّف سيُصب على الاحتلال، لكن يجب الالتفات إلى أن ارتكاز منصب بيد شخص واحد سيضعف من الحزب بشكل كبير، والكاريزما ليست بتلك الايجابيّة بقدر تكريسها للشخوص والجماعات دون الحزب، وهنا قد يكون مربط الفرس، وسيبقى الاحتلال منتظراً (زلّة خطأ) من رجل تعرف أنه وراء خلو قاموس الجناح العسكري من اتفاق أو صلح أو استسلام.