مقدمة
في ديوانها "ضفائرروح" تأخذنا الشاعرة ديمة إلى عوالم ملونة زاهية ، مليئة بالنبات من كل نوع، والطيور المغردة التي تقلّبها الحياة فنراها مرة سعيدة وتزقزق فرحًا ، وفي مرات أخرى تشدو بالألحان الحزينة.
وإذا كان الشعر هو دفق من المشاعر الملتهبة ، التي لا تتوقف إلا بانتهاء القصيدة ، فإن الشاعرة أجادت في التعبير عن مشاعرها المضطربة والتي تتغير بتغير الأحوال والأمكنة. يقول وردزورث: "الشعر هو التعبير الخيالي لشعور عميق داخلي يكون موسيقى الأداء لأنه فيض عفوي للعواطف القوية تنساب للشاعر بهدوء". (يوسف عزّ الدين. التجديد في الشعر الحديث. دمشق: منشورات دار المدى للثقافة والنشر. ط2. 2007م. ص 46)
وتخلل الديوان الكثير من الصور المبدعة التي عبرت بها الشاعرة عما يختلج في نفسها من غبطة وفرح، فكما يقول شيللي: "الشعر سجل لأجمل اللحظات وأسعدها لأفضل العقول وأسعدها". (المرجع السابق. ص 47 )
في قصائدها تنوعت الموضوعات وإن طغى الحب على أغلب القصائد الحب للوطن، للحبيب، للأم... ولأن الشعر غير النثر ، فإنه عند الشاعرة ديما يمتاز بالصورة الشعرية التي ركزت عليها الشاعرة في قصائدها ، وكانت المحرك لموسيقى الكلمات المنسابة كشلال ماء متدفق. لذا جاءت بعض الصور غامضة ، والغموض غير المتكلف مشوق ، والإيحاء الموسيقي جميل ، ، وهذه هي قصائد شاعرتنا.
القسوة والظلم وحلم الانعتاق
تختار الشاعرة قصيدتها الأولى لتعبر عن حبها لمصر، وعن قدرة الوطن على التخلص من أمراضه الصعبة ، تقول الشاعرة في قصيدة "سـتُـزهـرُ فـي نِـيـلِــكِ الــنّـبِـيّـات ":
"وأنا أودّعُـكِ أيّـتهـا الأميرةُ العتيقة
أشعرُ بارتباكٍ يغلّفٌ دماغي
يعتريني بطءٌ لذيذ
وأنا أعـقـدُ ثنايا سُـلّـمِ الماء
وأدقُّ زوارقَ النور
تلك تمائمي التي أُرقيكِ
جلُّ الماء والنور
وديعتي إليكِ
ريثما تدركينَ العودةَ والنجاة
وستُدركين ".
تودع الشاعرة البلد وهي تقدم رجل وتؤخر أخرى ، يحس القارئ أنَّ الشاعرة مجبرة على الرحيل ، ولكن تستودع البلد الماء والنور ، وهما رمزان يشيران إلى الأمل بحياة مزهرة ، والانعتاق من القيود والطيران بحرية. وتضيف الشاعرة القول:
"أُوقِنُ بأنكِ لستِ البكماءَ ولا الضريرة
لكنّ الولاداتِ الـقيْـصريّةَ غالباً ما تتعثر
ليخرجَ إلينا أطفالٌ كالأقمار
تُنسينا وجوهُهم الدُريّةُ
كلَّ عذاباتِ الوِحام
وكلَّ الـنُّدوب وآثارَ الخياطة
وبقعَ الآلام ووخزاتِ الحُـقـن الـوريديّة ".
أيها الوطن الرازح تحت نير الصعاب والقيود ، أنا على يقين إنك ستجتاز كل العقبات رغم الألم والوجع الكبير ، فأحلامنا أكبر من ذلك ، ولا فرح دون حزن في النهاية ، فلا بد دون الشهد من إبر النحل. فالأوضاع متقلبة ولكن في النهاية سيزهر الفرح ، وستبدع الأرض جنتها المليئة بالقصب وسنابل القمح ، والأحلام المحلقة كالطيور التي لا بدَّ أن تصل إلى منتهاها. تقول:
"والقياماتُ تـعـلو وتـهـبط
تفورُ وتسكُنُ مراتٍ ومراتٍ
قبل أن تـنْـبـلجَ عن ردهاتٍ من
الجـِنان والخيالِ والـقـصبِ والـحِـنـطـة".
لا تنسى الشاعرة التفكير بالفقراء والمعدمين ، إنَّ الوطن وإن قسى على أبنائه لحظات ، فإنه لا بدَّ أن يعطي حنانه وعطفه بلا حدود لهم ، فهو قادر على مسح أوجاع الكادحين ، وإزالة ما ران على وجه البسطاء من سواد ناتج عن توحش المدنية ، فالأرض تمنح بلا شروط ولكنها تحتاج أيضًا إلى الأيدي الحنونة التي تربت عليها ؛ لتزداد قوةً وعنفوانًا لتقهر فيروس المرض وتدوسه ، تقول:
"وتجلـوَ زنودَ الكادحين من الـعـرَق والتراب
وتنفضَ عن تجاعيد وجوهِهم أدخنةَ الانتظارِ
وعوادمَ حــافلاتِ الـنقـل
وتعطيَهم نعالاً جديدةً بدلاً من تلك المهترئة
وتطهّرَ أكبادَهم ودماءهم من الفيروس اللعين ".
لذا الشاعرة لا تستسلم تماما كالأرض الطيبة المحبة التي وإن عانت اليبس والجفاف ؛ إلا أنها قادرة على إعادة الاخضرار إلى ربوعها بسواعد أبنائها ، وحلمهم المشترك ، تقول:
"سأحتفي بحلُمي على عنُقكِ
وأرتعُ في وسائد الغبطةِ
ونـنـتـشـي معاً ولو بِـنـبيـذٍ رخيص
بقدر ما تحملينَ من قمحٍ وماء
وبقدر ما تُـنـبـتـيـنَ من أرحامٍ ولغة
بقدر ما تُزهرُ فـي نِـيـلِــكِ الـنّـبِـيـّات".
إذن بالفعل الإيجابي والفاعل من أبنائها تحيي الأرض نفسها من بعد ممات ، بدموع الفرح ، وقطرات الحلم المسال على ترابها والممتزج بنهرها الخالد ، ليزهر الأمل قويًا وعصيا على الانكسار.
تقول الشاعرة في قصيدة "الدّوري":
"ينكسرُ جـناحُه
الـدُّوري
يستكينُ على الغـصن".
تعاني الشاعرة من ضياع الحلم وقهره ، يكسر قلبها لرؤية الحياة تفر منها ، تهدأ وتستكين وكأنها تستسلم للواقع المزري. تأخذ فسحة للتفكير، فالدوري ما زال يحاول:
"لا يتراجعُ عن الـفـكـرة
هـدنةٌ من الطيران
يحـلّـقُ أعـلى".
ولا يكف عن محاولة الطيران وتحقيق الحلم اللذيذ بالحرية ، فالواقع قد يكسرنا في مواجهتنا له ولكنه يفشل بهزيمتنا وسحقنا إن نحن عرفنا الإردادة التي لا تلين، والتصميم الجبارعلى التمسك بالحياة غير محدودة الفضاء. تقول:
"قـشٌّ في المنقار
وعـشٌّ جـديـد
حبٌّ وشريك
زهـرٌ يـتـفـتّـح".
طائر الدوري الجميل الذي يكسر جناحه ، وظهر أنه قد استسلم للموت ، يدهشنا بقدرته على الاستمرار ، وهزيمة الجدران التي تقف في وجهه ، فها هو يعود إلى الحياة بنفسية مرتاحة ، وقلب صلب لا ينكسر فقد استفاد من تجاربه الماضية ، وهو ينجح في استغلال اللحظة في بناء بيته من جديد ، والبدء من جديد ، فكأنه قد حقق ولادة ثانية قادرة على طرد السجن والظلام.
إنَّ الشاعرة ترتبط بالمكان بوشائج قوية ومن الصعب انفكاكها ، وهي تحلم كما يحلم كل فنان وشاعر "أن يفك الأسر ويمنح المكان ما يليق به ، سواء أكان مكان الذات (الجسد) أم المكان (الأرض والوطن)، أم القصيدة التي هي مكان لتجليات الاثنين معًا ولتجليات الروح والفكر التي تحتشد بهما الذات).
(فاطمة الوهيبي. المكان والجسد والقصيدة المواجهة وتجليات الذات. الدار البيضاء: منشورات المركز الثقافي العربي. ط1. 2005. ص 173)
لذا لا غرابة أن تقول في قصيدة "انتثار":
"على قـارعـة الـضجـيـجِ
انــتـثـرتُ شـقـــشـقـاتٍ لـِسـنونو
يــراودُه الانعــتاقُ من كلّ شيءٍ
إلا رذاذَ الـمـدِّ المستحيلِ من الـجـزْر
ويَلـتـهـمُ الـمـُزنَ عـلى عجَلٍ
لـيقـبـضَ على حبّات الـمـطـرِ
تحت جناحيه
ثـمّ يـستـنـشـقُـهـا ويـتـدثّــرُ بهـا
حـبّـةً حـبّـة
في خـشـوعٍ وتـصـوّف".
فالإنسان وحدة القادر على الإحساس بالمكان ، وهو القادر على نبش كل سنتمتر فيه ليعثر على ما يبحثه عنه ، ولا شك إنَّ الشاعرة حالفها الحظ باستخدام السنونو رمز الحرية والسلام والمحبة مع المطر رمز الخير والنماء والطهر والنقاء والبداية الجديدة لتعبر عن توقها للحرية والطيران في فضاء رحب والاختلاط بحبات المطر المنهمر. فرغم كل شيء على الإنسان أن يقاوم منغصات الحياة ، ويثور ضد الظلم والاستعباد والقهر ، عليه أن يحافظ على كنوزه الماضية ؛ ليصمد أمام تيار الحياة الجارف ، تقول في أبيات من قصيدة "دُحـنـونـةٌ* وحـيَـوَاتٌ أخــرى":
جـنـاحٌ مـكـسـور
وتـسـعُ زجـاجـات
وأربـعـون قـصـيدة
وغــصــنٌ ذابــلٌ لـدُحـنـونـةٍ
تطايرتْ بـتـلاتُـها بـعـد الـيـَبـاس".
فقد تضربنا الحياة ، وتفشلنا وتحد من تقدمنا ؛ في سبيل تحقيق أحلامنا إلا أنَّ الإنسان باستطاعة منازلة الحياة والتفوق عليها ، بامتلاكه لماضٍ زاهر، وحاضرٍ مليء بالعمل والإبداع لبناء مستقبل لا تشوبه شائبة ، تقول في نفس القصيدة:
"وعـشـبُ ذاكـرةٍ مـازال وحـدَه يـنـمـو
يُــعــرّش مــن خـطـوط الجـبـيـن".
ويقع اختيار الشاعرة على قصيدة "تَـــوحُّـــــد" لتختم به رحلتها في عالم الشعر الممتع والحالم بغد أفضل ، تقول:
"عزف القمرُ لـحـنَ الـريـح
وضع نجمةً أو نجمتين
عقد ربطةَ عنقِه
و راحَ يغوصُ
في الطريقِ المرصوفِ
بين الياسمينِ والزنبق
.
.
التأمَ مع كلِّ الموجودات
و ردّدَ مـقطوعةَ العنفوان
تـبتّـلَ في أهدابِ قرنفلةٍ
عانقَ صفصافةً عند ضفّةِ النهر
خاطَ جـفـنـيْه مع تـلابـيـب الغيم
.
.
.
هـدهـدتْـه بنفسجةٌ
فَصحا من وَسَـنِـه
واستحالتْ أنفاسُه صهيلاً
فانـبــثـقَ فرَسُـه
.
.
.
أسرعَ الخطا نحوي
صار وجـهـاً واحـداً
تجلّى أمامَ عينيّ
في كلِّ وجوه الزحام
وفهمتُ كيف يُذيبُ الحبُّ
وكيف يُـنـبـِتُ الشّوقُ
وجـهـاً واحداً
في وجوهٍ كثيرة
ويُــوقِدُ ظَهر الـرِيـــح
لِـلـقـاءٍ مـمـكـن ..".
ومن خلال الألفاظ (قمر، نجمه، الغيم، النهر، فرسه) وعبر الأزهار الشذية في القصيدة (الياسمينِ، الزنبق، قرنفلة، صفصافة، بنفسجة) والأفعال المضارعة (يذيب، يوقد) تظهر لنا الشاعرة إيمانها التي لا يتزعزع بقدرتها على الاستمرار في الحياة ، وفي المكان الذي تشتهيه ، صانعة لنفسها عالم جميل وعذب يكاد يشبه جنة أرضية متغلبة على كل الآلآم والهواجس وواضعة حدًّا لها بحد الريح التي تتواطأ معها وتصبح طوع أمرها لتحقيق أمانيها ورغباتها الجامحة.