ناصر الريماوي
قاص فلسطيني مقيم بالسعودية
خاص الحدث
قلتُ لكم ألف مرّة بأن شمس الضحى ستسقي أحواض الزينة كل صباح، فلم ظلّت شرفة البيت بعدكم مغلقة...!؟ صياحها المبحوح بذلك الهتاف لا زال يطارد الصباحات في حي "الشيخ رضوان" ثم يستقر تحت ظلّ السور... أمام بيتنا.
"غزة" تتقلّب على وسادة البحر، ككل ليلة، وتنشر عدوى أرقها المزمن في فضاء المدينة...! قلت لها ذلك وأنا أرد عن عينيّ وهج النهار، ضوء الشمس يملأ الغرفة، وحين تسحب عنّي الغطاء يغشاني مصحوبا بأصوات قريبة، متداخلة : لستَ في القاهرة الآن، ثم إنها الظهيرة ... سأوقظ أخاك ريثما تعد لنا اختك القهوة، انتظرتُ عودتك بفارغ الصبر وها هي النهارات تفوتني من دون قهوة الصباح..! تصيح أمي بحزم وهي تشرع النافذة أكثر، ليعبر نحونا البحر والضجيج، وصوت المرأة الذي أيقظني صياحها خارج البيت لأنتفض واقفا، يا إلهي... لم أكن أحلم إذن. تلف أمي شالها حول رأسها بارتباك، وهي تحدّث نفسها: ثبّتْ علينا العقل والدين يا رب، المسكينة عادت لتبيع لنا البحر في علب الصفيح ...!
ثم تغادر مسرعة.
- لو كان في قلوبهم ذرة شوق واحدة... لعادوا!
يا ألله...!، "مريم" التي اعتدنا عليها، تعد افطار صغارها على هدير الرصاص في غزّة، منذ متى وهي تسأل شبّان الحيّ عنهم!؟ ربما لم تجد غير هذا بعد أن تخلّت عنها المدرسة، قالوا لها بأن أولياء الأمور قد ضاقوا ذرعا بالاسئلة وبالفزع الذي استوطن الصغار من تلك الأسئلة.
بهذا ترد أمي كل مرّة قبل أن تغص بالدمع.
كلنا يعرف – حتى أمي - كيف كان صبيتها يجلبون لها الصباح برنين أجراس الصخب الطفولي، ويحملون معهم صوتها الغائر لونا اضافيا على جبهة الزي المدرسي، والشبرات الملوّنة، وفي الطريق تضيع جديلتها، تلك الصغيرة، فتبتسم لها من بعيد ... قبل أن يسبقها الدمع.
"ياسمين"... كم كانت جميلة وهي تتيه بأحلام العرائس بحسن لم يكتمل... لكنها الآن تفوقكم قسوة...!
ثم يسقط الكلام بيننا على مصطبة الدمع فينكسر ويتناثر عند منعطف المدارس في حي "الشيخ رضوان"، اتخطاها، لتتعربش غيري بالسؤال عنهم. كنتُ في سنتي الأخيرة، وكنتُ ألمحها من مقعدي، وهي تكنس الساحة الواسعة للمدرسة الابتدائية، وتشطف أرضية الفصول بهمة عالية، وحين تتعب تجلس وحيدة في ركنها المعتاد لتطالع ذلك الفصل المشرع أمامها على صخب الصغار، تمشط صفوف مقاعدهِ بنظرات قلقة، ثم تدلف نحوهم في تساؤل مألوف: ألم تعد "ياسمين"... ألم يرها أحد منكم؟ ثم تنتقل لفصل الذكور المجاور، تسأل صغاره الواجمين في حذر وقلق مماثلين، هل عاد "جابر"، ولم تأخر "سعيد"... ألستم أصدقاء، فلم تأخروا في المجيء لهذا اليوم إذن؟
ولم أعد ألتقيها إلا بين ازقّة الحي. قبل سفري للدراسة الجامعية في القاهرة استوقفتني تحت سور البيت، توسلتني أن أبحث لها عن صِبْيَتها هناك، اشفقتُ عليها أكثر حين تداركت محذرة: ربما كبروا قليلا... فلا يختلط الأمر عليك. تعهدتُ لها بذلك، وتمنيتُ عليها أن تعود للعمل في مدارس الحيّ، ردّت في كبرياء وحرقة: أبيع البحر في علب الصفيح... ولا أعود لقسوة الانتظار والناس.
ايقظتني رائحة القهوة تماما، لأستفيق من شرودي، كان أخي بقربي، بينما سبقتنا أختي الصغيرة بالفناجين إلى وسط الشرفة، جلسنا هناك بانتظار أمي، كان الأثير يحمل عبق ياسمينات أحواض الزينة المجاورة مختلطاً برائحة البحر البعيد، طال انتظارنا لها حتى خشينا على الوقت ان يبرد من جديد، نظرنا نحو السور، كانت لا تزال أمي جالسة هناك محاطة بعلب الصفيح الفارغة، تحدّق نحونا، صوتها المجروح ببحّةٍ مزمنة بدى أكثرعتاباً هذه المرّة: قلتُ لكم ألف مرّة بأن القهوة وياسمينة الدار، أحب لهما أن تزكما أنفي ككل صباح كان بيننا، غير أنكم تجاوزتم الوقت في النوم، أهو النوم ما يحجب عنّي قهوتكم هذا الصباح؟