السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

جُملة مُعترضة بين القاسم والقسّام خيري منصور

2014-08-23 04:12:40 PM
جُملة مُعترضة بين القاسم والقسّام
خيري منصور
صورة ارشيفية

 الحدث: ما من انثى حامل مثلها، تلد التوائم بتعاقب وتودعهم معا، فقبل خمسة عشر عاما قال درويش للقاسم لا تدخل الى السّتين، وتباطأ ما استطعت كي لا تجرّني رغما عن صباي المزمن اليها، وحين سألته لماذا السّتون؟ قال ساخرا لأنه الرقم الأقصى الذي يُضرب به المثل، ففلان ابن ستين كَلباً، والفتاة الصغيرة تقول اذا استنكر عليها الاهل رعونتها انا لست عجوزا في السّتين، بعدها بعام واحد جمعنا الراحل د . سمير سرحان في القاهرة، آه كم انت امّي وناكر لجميل الحياة ايها الموت … فكلّهم رحلوا …

قلت لسميح ليلتها سأطلب من محمود ما طلبه منك وهو ان يتريث قليلا قبل بلوغ السبعين كي لا يجرّني وراءه الى شيخوخة لا تليق بمراهقتي، لكنه توقف عند العتبة الثامنة والستين، وسيبقى الى الأبد دون السبعين، وحين رحل توفيق زيّاد بحادث سير ضحكنا من فرط البكاء، وتذكّرنا ان الوطن كله ذهب بحادث سير كما في قصيدة الوداع التي كتبها محمود درويش لماجد ابوشرار .. كم انت اميّ وناكر لجميل الحياة ايّها الموت …. وتشاء المصادفة الماكرة ان نلتقي محمود وانا في منزل الصديقين الشاعرة مي صايغ ومحمد ابو ميزر في عمانوتكون معنا الراحلة انعام عبد الهادي ارملة ماجد .. في تلك الليلة الشجيّة كان على محمود ان يقول مساء الخير يا ماجد قم اقرأ سورة العائد … بدلا من صباح الخير، وبعتاب طفولي قال لإنعام ان ماجد تأخر لليوم التالي كي يشتري هدية لإبنته داليا، وحين اتسعت عينا انعام دُستُ بطرف حذائي على قدم محمود كي لا يكمل .. وتنبّه الى ما قال لكن بعد فوات الاوان …
سميح التوأم الذي استبق محمود قليلا في الولادة ليبشّر به عانى من فائض العافية حتى بعد الستين وكان يردد ان الرب يحابيه فيُبقي شعره غزيرا على الرأس وشٍعره وفيرا في القلب، وفي آخر لقاء لي بالراحل رجاء النقّاش « كم انت سادي ايها الموت فقد رحلوا كلّهم « .. قال لي انه اطلق اسم سميح على ابنه وهو مخرج سينمائي معروف، واضاف ان له سميحين واحد من صلبه لم تلده زوجته الدكتورة هانيا بل ولدته قرية الرّامة في فلسطين، ادرك القاسم مبكرا ان احد شروط ولادته شأن البشر كلهم هو انه درزي وكان يعي رهان الاحتلال على خلع الدروز آل معروف من جذورهم العربية، لهذا قاوم في خندقين وكان عنوان معركته المزدوجة هو : 
{ شرف السواقي انها تفنى فدى النهر العميق }
وكنت اقول له مداعبا انت ابن خالي .. لأن جدي تزوج من درزية لكنها لم تنجب وكان من الممكن ان أصبح حفيدها … وقد لا يعرف معظم قراء سميح انه حفر قبره بيديه وهو في ذروة العافية وقبل ان يلوح له الموت الماكر من جهة خامسة، لهذا خرج الى خصمه موتا لموت وشمسا لليل وغناء لبكاء، لكن في الشهر ذاته الذي رحل فيه محمود بعيدا عن البروة وشقيقتها الجديدة، في صقيع الوحشة بهيوستن، عشرة ايام فقط تأخر فيها التوأم عن اللحاق بأخيه، ولم يكن الاثنان يحبان رطوبة شهر آب الذي اصبح اقسى الشهور وليس ابريل كما في قصيدة الأرض الخراب لإليوت، لكنهما الان قاب فنجاني قهوة او أدنى من الخريف الذي عشقاه، فهل سيعد محمود بنفسه القهوة لزائره ويدخنان جذر نبتة برية، ويتذكران مساءات جريدة الاتحاد واميل حبيبي … كم انت قاس ايها الموت فقد رحلوا كلّهم، وهل سيختلقان بمكر طفولي حكاية تعفيهم من وجبة غداء في بيت توفيق … آه لو أسلمت هذه الذاكرة للتداعيات … فلن اكتب غير الزّفير المشبع بوجع القلب، لكن القاسم شهد زمن القسّام … كلاهما غنّى وقاوم وأنجب احفادا يعبرون الاجيال الى فلسطين القادمة .
ما اكتبه ليس اكثر من جملة معترضة بين القاسم الشاعر والصديق والانسان وبين القسّام الجدّ الذي وثب من الشام الى يعبد، حيث كل شبر من تلك الجغرافيا الرسولية مَعْبَد، وفي عزّ هذه المقاومة التي استلهمت الشيخ عز الدين كان سميح ومحمود يتقاسمان الشاشات والذاكرات ويقاتلان معا، احدهما يقول :
تقدموا تقدموا
فكل سماء فوقكم جهنم
وكل ارض تحتكم جهنّم
والاخر يردد :
اخرجوا من بحرنا
اخرجوا من برنا
اخرجوا من ملحنا
احملوا اسماءكم وانصرفوا
قبل خمسة وأربعين عاما، كان التوأمان والأب توفيق زيّاد شحنتنا الروحية وزاد مناعتنا في الردّ على حزيران الفضيحة، وهم الان زادنا في زمن غزةالذي شحّ فيه الزاد والماء والكهرباء والرّفيق، لكن الوحيد يتعدد في اقصى وحدته ويستدعي احتياطياته كلها، من المقابر والذاكرة والمستقبل ايضا، فيشهر العصفور صوته امام أزيز زنّانة تشبه عقربا من حديد وتلدغ نفسها وهي لا تعلم …
كم انتم بعيدون وكم انتم أقرب من العين الى توأمها ومن اصبع الزناد الى اصبع الشهادة ..
وتشاء تلك الأم الجليلة والجليلية ان تكون جنازتك يوما فلسطينيا يحتشد فيه الشهداء ومن ادرجوا على قوائم الشهداء، منذ شروق الشمس الذي لن يعقبه غروب، فكل ما سوف تسمع من احفاد القسّام لك منه نصيب، ولا احتاج الى ان اكون زرقاء يمامة او ازرق جليل كي ارى اهلك بالالاف يحملونك على الاكتاف فيما يتدفق من قلت لهم تقدموا براجمات حقدكم الى الملاجىء والجحور .
صباح الخير يا سميح …
اسرع قليلا قبل ان تبرد القهوة التي اعدّها لك محمود .
أيها الموت كم انت اميّ وقاس وعاقّ وناكر لجميل الحياة … فقد ذهب الذين نحبهم لكن قبور امثالهم حافلة بالعائدين !

نقلا عن القدس العربي