منذ مطلع القرن التَّاسع عشر - تاريخ ظهور إرهاصات بداية الثورة الفرنسيَّة - وصولاً الى نهاياته - مع اكتمال قُرص الإمبراطوريَّة الإنجليزيَّة التي كان لا يغيبُ عنها قُرص الشَّمس فوق الكوكب؛ مروراً بمنتصف القرن الماضي - موعد تسلُّم الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة إرث إنجلترا الاستعماري عبر العالم، كنتيجةٍ من نتائج الحرب العالمية الثانية الكبرى؛ وحتَّى يومنا هذا؛ ما زال العالم يعيش ضمن مِرْوَحةِ ثلاث إمبراطوريَّات تغدو وتروح على مساحات جغرافيا ووجدان ولحوم بني البشر؛ أوَّلها: إمبراطوريَّة الإشعاع الثَّقافي الفرنسي، مُتَمثِّلاً ذلك بالفرانكوفونيَّة القديمة والجديدة وفعليَّاتِها وتجلِّياتِها. وثانيها: إمبراطوريَّة الُّلغة الإنجليزيَّة، مُتمثِّلاً ذلك بعالميَّةِ اللغة الإنجليزيَّة في مجالات العلوم ولإعلام وفي فضاءِ لغة السِّياسة والدُّبلوماسيَّة؛ وثالثها وأهمُّها: إمبراطوريَّة الدُّولار الأمريكي المدعوم بالعضلات العسكريَّة للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، ضمانة استمرار وامتداد نفوذها السِّياسي والاقتصادي الفعلي والمعياري والَّذي استندَ ابتداءً إلى ضخامة حجم التكنولوجيا الأمريكيَّة، وضخامة حجم ودور المفاهيم والإعلام الأمريكي ومؤسَّساته المختلفة، وإلى سلطة الشَّرِكات الأمريكيَّة الكبرى ومؤسَّسات الأعمال العملاقة العابرة للمحيطات وللاقتصاديات عبر العالم، وإلى منظومات العلاقات العامَّة الدَّوليَّة في مناخِ سيادة ثقافة ومفاهيم العولمة الثقافيَّة والاقتصادية وسطوة روافعها الثَّلاث – البنك الدَّولي وصندوق النَّقد الدَّولي ومنظمة التِّجارة العالميَّة، وما للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة فيها من حصَّة الأسد في غابةِ نهبِ الثَّروات تحت عناوين برامج تنمية العالم المُتخلِّف أو العالم الثَّالث، وضمن برامج إعادة الهيكلة، وتحرير التِّجارة الدَّوليَّة.
ارتبطَ مفهوم – الضَّخامة وكِبَرِ الحجوم - Huge بثقافة المجتمع الأمريكي – بل حتَّى بحجم أجساد طلائع المهاجرين الأوربيين وضخامة الأدوات التي استخدموها، وأثرِ أفعالهم وأعمالهم، تلك الطَّلائع الَّتي عبرت المحيط إلى البلاد الجديدة - منذ أنْ نشأَ ذلك المجتمع الأمريكي الفريد بفعلِ فيضان نهرِ الحضارة والثَّورة والنَّهضة المعرفيَّة والصناعية الأوربيَّة المتدفِّقِ إلى شواطئ أوروبا على المحيط الأطلسي وفي عمقه وصولاً إلى شواطئ البلاد الجديدة في القارَّة الأمريكيَّة، مُعبِّراً عن فائض قوَّة وعافية المجتمعات الأنجلو سَكسونيَّة وجشعها ورغباتها ودوافعها الاستعمارية المتَّصلة بضرورات النُّمو الدِّيمغرافي والصِّناعي والاستهلاكي في مناخ التَّنافس الاستعماري، ومن ثمَّ الإمبريالي على مساحة جغرافيا العالم بقارَّاته الخمس، وتحديداً قارَّتي آسيا وإفريقيا، وفي القلبِ منهما منطقة الشَّرق الأوسط، عِوضَاً عن التنافس داخل القارَّة الأوروبيَّة نفسها، مِمَّا أفرز حربين عالميتين في غضونِ أقل من ثلاثة عقود من الزَّمن – ما بين عامي 1914إلى1939 والَّتي دخَلتْها الولايات المتِّحدة بانتهازيَّة واستغلَّت نتائجها بانتهازيَّةٍ أكبر.
إنَّ أولى الدَّلالات السيكولوجيَّة والواقعيَّة والتَّطبيقيَّة للمصطلح الإنجليزي Huge في الثَّقافة الأنجلو سَكْسُونيَّة كانَ زيادة وفورات الحجم الهائل تكنولوجيَّاً وصناعيَّاً وبنيَويَّاً واقتصاديَّاً واستهلاكيَّاً، بما أملاهُ ذلك من ضرورات التَّوسُّع والامتداد والاستحواذ والابتلاع ومن ثمَّ عسر الهضم، تعمَّقَ ذلك المفهوم بأمركةِ أوروبا في أعقاب الحرب العالميَّة الثانية ضمن ما عُرِفَ بمشروع - مارشال – ثمَّ امتدَّت أذرعه الإخطبوط الأمريكي ابتداءَ من بحرِ الصِّين وجنوب شرق آسيا شرقاً وصولاً إلى حوافِّ القارَّة الإفريقيَّة على المحيط الأطلسي غرباً، إضافةً إلى محاولة ابتلاع القارَّة الأمريكيَّة الجنوبيَّة برُمَّتِها.
هذا ما ميَّزَ سياق سلوك وحركة العملاق الأمريكي ألــ –HUGE – طوال الوقت، لكنَّ أعراض عسر الهضم، وثِقْلِ أوزان زيادة وفورات الحجم الَّتي أصابت الإمبراطوريَّات السَّالفة كان لا بدَّ لها أنْ تُصيب هذا العملاق، مِمَّا يدفعه إمَّا لفقدان التَّوازن، أو التراجع ومن ثمَّ ضمور وانحسار دوره.
ربما هذا ما تنبَّهت له الإدارة الأمريكيَّة الأخيرة، وربما هذا ما دفعها إلى ممارسة نوعاً من سياسة الانكفاء النِّسبي عن أكثرِ من مساحَةٍ من مساحات نفوذها الإمبراطوري التَّقليدي العريق عبر مناطق مختلفة من العالم، وهذا ما يدفعها للقبول والاعتراف الضِّمني بمصالح وبدور وسلوك بعض القوى الإقليميَّة في الوقت الحالي في منطقة الشَّرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، وهذا ما دفعها مؤخَّراً إلى المشاركة في المنظومات والتَّكتلات الاقتصادية الكبرى، كمجموعة العشرين، وهذا ما يدفعها الآن باتِّجاهِ تفعيل منظمة – نافتا – كمنظومة أمنية واقتصاديَّة والتي تضمُّ حصراً الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وكندا وبعض بلدان أمريكا الشَّماليَّة، كمقدمَةٍ لوضعٍ قاعدةٍ جديدة من الاكتفاء القارِيِّ الذَّاتي على المستوى الاقتصادي والاستراتيجي، وهكذا هو دأبُ مروَحة الإمبراطوريَّات عندما تخضع حركة دورانها لمؤثِّرات قانون القُصور الذَّاتي الإمبراطوري، وهذا ما يٌقلِقُ إسرائيل على المستوى الاستراتيجي، وهذا ما يغْفَلُ عنه - بقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ - العرب !!.