الفجيعة ليست كالمخدرات، لكن تكرارها يسحب منها الدهشة والإحساس الكارثي ويدخلها في دائرة الاعتيادية، فتصبح مألوفةً، ويراها الناس بطريقة لا تشبه رؤيتهم لها عند وقوعها لأول مرة.
صاحب الفجيعة يألفها، ومشاهدها يألفها، والإعلام يعتادها، ويغض الناس أبصارهم عنها، فقط لأنها لم تجد طريقها إلى الحل في وقت قصير.
فلسطين احتُلت منذ ما يقرب من سبعين عاماً من قبل احتلال استيطاني، شغلت القضية الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي لسنوات، وانشغلت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) باللاجئين لسنوات، ثم انشغل اللاجئون أنفسهم بالحفاظ على بقائهم وصون كرامتهم. ومرت السنوات، وبدأت الأونروا بتقليص خدماتها على الرغم من عدم حدوث تغيير يذكر في واقع اللاجئين السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فثمة أحداث طرأت جعلت من قضية اللاجئين أولوية ثانوية.
انطلقت انتفاضات عديدة كانت تنتهي بلا شيء، والانتفاضة الأخيرة بردت إعلاميا على الرغم من عدم برودها داخليا، إلا أن الإعلام استنفر عند أول حادثة طعن صهيوني من قبل فلسطيني، وحين تكرر المشهد، أصبحت عمليات الطعن اعتيادية، بل أصبح سقوط الشهداء مألوفاً حتى فقد قدسيته في وسائل الإعلام العربية والعالمية. (إنها ألفة الفاجعة..)
انطلق (الربيع العربي) منذ ما يقرب من خمس سنوات، انشغل العالم بتونس في البداية، ثم بليبيا ثم بمصر والآن بسوريا واليمن، ومع مرور الوقت، أصبح الاقتتال في ليبيا حدثا عادياً حتى لوسائل الإعلام العربية والعالمية، ولا ينتبه العالم إلى تونس أو مصر إلا إذا حدثت مصيبة، كتفجير انتحاري أو هجمات إرهابية، أو تغيير النظام بانقلاب أو ثورة. (إنها ألفة الفاجعة)
المشهد السوري وحده المتجدد الآن، والسبب: التدخلات الدولية، فقد كاد المشهد ينتهي عند المعارك بين الجيش السوري وحزب الله من جهة، والمعارضة والمتطرفين من جهة ثانية، لولا التدخل الروسي بثقل أعاد للأذهان القضية برمتها.
اللاجئون السوريون احتلوا مانشيتات الصحف والقنوات الفضائية، حتى أن مراسليها سافروا إلى دول البلقان وتركيا واليونان وألمانيا والسويد وغيرها، ونقلوا تقارير عن غرق المئات، ولا يزال اللاجئون السوريون العابرون للبحار يغرقون كل يوم، لكن المشهد أصبح مألوفاً، والغرق لم يعد خبراً يستحق المتابعة. (إنها ألفة الفاجعة).
الدولة اللبنانية بلا رئيس منذ أكثر من عام ونصف، استهجن اللبنانيون الأمر في الأسبوع الأول ثم اعتادوا على (غياب الرئيس)، ويمكنهم الحياة بدونه لسنوات قادمة. والأمر ذاته يحدث مع أزمة النفايات، التي احتلت صدارة الأخبار في الأسبوع الأول، إلا أن مشهدها صار مألوفاً، ولن تعود إلى الصدارة والاهتمام إلا عندما تنتشر الكوليرا والأمراض الأخرى. حتى الفساد أصبح ضمن إيقاع الحياة اليومية للبنانيين، وتجاوز القانون أصبح عادة، ومن يتحدث عن القانون يواجه بالاستغراب (نسيت إنك في لبنان!). (إنها ألفة الفاجعة).
وحدهم العرب من بين شعوب العالم، يألفون فجائعهم، ويعتادون على الهزيمة والموت واللجوء والنفايات خلال وقت قصير، وحدهم يتعايشون مع اليأس، ولا صوت يعلو فوق صوت (فالج لا تعالج). ورغم ذلك، فإن المتابع للإعلام العربي، بما فيه إعلام الدول المصابة بالفجائع، يبدو وكأنه يبث من دول ليس فيها أزمات سياسية ولا جوعا ولا مافياوات، ولا دكتاتوريات، ولا عصابات ولا نقص خدمات. فنرى برامج الترفيه تكتسح الخطط البرامجية، ومسابقات الغناء تحتل حيزاً مهماً في معظم المحطات، والاستراتيجيات الإعلامية تفتقر إلى التثقيف في أي مجال.
يبدو أنه يمكن الإدمان على الفجائع، وعلى النفايات من كل نوع، وعلى الانقسام، واللجوء، والاقتتال والفساد، وكأن الشعوب العربية تستمرئ هذا الواقع وتلوذ به خوفاً من التغيير والصراخ والانتفاض والثورة. ولا بصيص أمل في المستقبل القريب يشي بتغيير الحال.. ترى إلى متى ستستمر هذه الألفة!؟