تقرير: سراب عوض
على الرغم من استلاب المحتلين لمياه فلسطين في كل موضع، وهم الذين تعمدوا بناء كتلهم الاستيطانية فوق خزانات المياه الجوفية بالضفة، إلا أن غزة تعيش على صعيد المياه، بؤساً لا يدانيه بؤس، وباتت المياه العذبة أمنية بعيدة، ما لم تحدث نقلة نوعية وطنية على صعيد المياه، فالناس في غزة تتلقى عبر الصنابير دفقاً من مياه البحر، وللشرب يتاح لها ماء ملوث عالي النترات، والتقنية تتعلق بالمياه الشحيحة عند مراكز التوزيع. إنها واحدة من مشكلات الحياة التي تمثل تحدياً للسلطة الوطنية، سيما وأن التشوهات البيئية القديمة لا زالت ماثلة أمام الجميع، حيث لم تخضع غزة لعملية تخطيط دقيقة في إقامة المباني والبنية التحتية، وبالتالي كان المواطن يبني حفرة امتصاصية غير صحية تسهم في عملية تلويث مستمرة للمياه الجوفية، فالتقطير المتزايد للحفر الامتصاصية شَكَلَ المعضلة الغزية الأهم ما قبل الاحتلال، والمعضلة الأكثر أهمية وتعقيداً في عصر الاحتلال الذي سبق وجود السلطة الوطنية الفلسطينية، أما بعد وجود السلطة الوطنية، فقد واجهت هذه المعضلة عمليات التجريف للطرق وقنوات الصرف الصحي، إلى جانب صعوبة إقامة شبكات صرف صحي للمخيمات التي كانت شبكاتها مفتوحة، وهي عبارة عن أقبية تنقل المياه العادمة بين الحواري والأزقة إلى الحفر الامتصاصية التي لم تكن هي الأخرى قادرة على استيعاب المياه العادمة دون تسربها للمياه الجوفية عبر الأرضيات الرملية، لذلك فإننا نجزم بأن جميع الآبار الارتوازية في قطاع غزة تعاني من هذا التسرب البيئي القاتل، إلى جانب التخريب والتدمير الذي يحدث لشبكات الصرف الصحي نتيجة لضرب الاحتلال وعدوانه على هذه الشبكات بين فترة وأخرى، حيث أدى إلى تراكم المياه العادمة في الشوارع، وتسربها إلى البحر دون أي نوع من المعالجة، وبالتالي فإن مياه غزة وشواطءها البحرية، تعاني من هذا التلوث المزمن الذي زاده قصف الاحتلال وتدميره لماتورات الكهرباء ومعدات البرك التي كانت تقوم بعمليات معالجة أولية للمياه العادمة قبل تسريبها إلى البحر.
هذا فضل عن عدم وجود خزانات تنقية للمياه الجوفية قبل توزيعها على المباني والمنشآت الصناعية والزراعية وغير ذلك، حيث كانت الأسرة الغزية قبل العدوان الأخير تحاول تدبر احتياجاتها المائية عبر عمليات التنقية الفخارية، وتنقية مياه الشرب بواسطة الأعشاب والتربة الرملية، أو شراء المياه المعدنية الجاهزة واستيرادها من الدول المجاورة، أما وقد فعلت الحرب الأخيرة فعلها في قطاع غزة، وطالت بتأثيراتها التدميرية كل هيكلية القطاع وهيكلية البنية التحتية، فإن المعضلة أصبحت معضلة إنسانية وليست معضلة محلية تعيشها مجموعة بشرية في حيز محصور على الكره الأرضية، حيث تنتشر في ظل هذه البيئة أمراض الملاريا والتيفوئيد والكوليرا والربو والأمراض الجلدية وغير ذلك، الأمر الذي يدعونا إلى وضع قضية المياه على جدول المهمات الأساس للسلطة الوطنية الفلسطينية، والمجتمع الدولي واعتبارها مشكلة صحية عالمية، ومشكلة اجتماعية وحياتية، أساس متصل بضرورة توفير سبل الحياة للكائنات الحية، وليس فقط للكائنات الآدمية التي تعيش في قطاع غزة.
وفي هذا السياق، يقول نائب رئيس سلطة المياه في غزة المهندس ربحي الشيخ إن قطاع غزة يتميز بندرة في المصادر المائية، حيث أن المياه الجوفية تعتبر المصدر الوحيدة لتلبية احتياجات قطاع غزة، والتي تفوق القدرة الانتاجية للخزان الجوفي الساحلي، ونتيجة لعدم التوازن بين الكميات المنتجة والمياه المتاحة، فقد أدى ذلك إلى تدهور المياه الجوفية كمّاً ونوعاً، مشيراً إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية لمعدلات عالية أدت إلى اندفاع مياه البحر إلى الطبقات المائية الحاملة للمياه، إضافة إلى زيادة ملوحة المياه المنتجة إلى معدلات تفوق أضعاف المواصفات الموصى بها من قبل منظمة الصحة العالمية، علماً بأن 95% من مياه قطاع غزة لا تصلح للشرب، ومع استمرار الوضع الحالي من المتوقع أن تتزايد ملوحة المياه إلى معدلات عالية جداً يصعب معها استخدامها، سواءً للأغراض المنزلية أو الزراعية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن حالة الانقسام الموجودة منذ ثماني سنوات، أدت إلى تأخر تنفيذ العديد من المشاريع الاستراتيجية في قطاع المياه كنتاج لعزوف العديد من الدول المانحة، بالإضافة إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في القطاع وتأثيراتها السلبية على أداء مزودي خدمة المياه، وعدم قدرتهم على إدارة هذا المصدر بالصورة المطلوبة.
وكان للاحتلال دور واضح بصورة مباشرة أو غير مباشرة في زيادة تدهور الوضع المائي في قطاع غزة نتيجة للاجتياحات المستمرة وتدمير العديد من منشآت المياه، وكذلك الإعاقة في إدخال المعدات والمواد اللازمة لإنشاء أو تشغيل أو صيانة المنشآت المائية، مما أدى إلى تراجع خدمة تزويد المياه، إن العدوان الإسرائيلى المتكرر والتدمير الممنهج لقطاع المياه، كما تبين فى العدوان الإسرائيلى الأخير، قد تسبب فى أضرار مباشرة على البنية التحتية لقطاع المياه، وبتكلفة مالية باهظة قدرت بحوالى 35 مليون دولار، بالإضافة إلى الحاجة لمبلغ مماثل خلال الشهور الستة القادمة لإعادة توفير خدمات المياه، حتى يتم إصلاح ما تم تدميره.
وحيث أن الكهرباء تعتبر عنصراً أساسياً في تشغيل المنشآت المائية، فقد أدى النقص الحاد في توفير الطاقة إلى تأخير إنشاء وتشغيل العديد من المنشآت المائية، وكذلك تأخير وتردد الدول المانحة في تنفيذ المشاريع المائية الاستراتيجية التي تحتاج إلى كميات كبيرة من الطاقة.
ورغم المعوقات المذكورة أعلاه، فإن سلطة المياه الفلسطينية قامت بالعديد من الإجراءات اللازمة لضمان استمرار تزويد المياه لمواطني قطاع غزة، ولو بالحد الأدنى كمّاً ونوعاً، حيث استمر التواصل مع الدول المانحة والمؤسسات الدولية لدعم قطاع المياه ضمن رؤية استراتيجية واضحة تمثلت بضرورة توفير مصادر مياه جديدة، من خلال إنشاء محطة تحلية مركزية، وبطاقة أولية 55 مليون متر مكعب في العام بحلول عام 2017، بالإضافة إلى أهمية إنشاء محطات معالجة لمياه الصرف الصحي، قادرة على توفير مياه صالحة لإعادة الاستخدام بصورة مباشرة عن طريق شحنها للخزان الساحلي، أو بصورة غير مباشرة للاستخدام الزراعي بهدف تغطية الجزء الأكبر من الاحتياجات المائية الزراعية، وتقليل الضخ عن الخزان الجوفي، بالإضافة أيضاً إلى تقليل الفاقد في شبكات توزيع المياه، وإعادة هيكلة قطاع المياه بما يضمن تحسين كفاءة مزودي خدمات المياه.
وفي سياق متصل، أكد مساعد رئيس سلطة المياه في غزة د.خالد قحمان للحدث، أن قطاع غزة يعاني منذ سنوات عديدة من مشاكل بيئية بشكل عام، ومائية بشكل خاص، جراء عدم وجود مصادر طبيعية كافية، وكذلك نتيجة لارتفاع الملوثات البيئية، إضافة على عدم وجود بنية تحتية كافية لمعالجة وتوزيع المياه. كذلك أدى تدمير محطة توليد الكهرباء في غزة عام 2007 إلى ازدياد ساعات انقطاع الكهرباء، وكذلك الحصار الجائر على قطاع غزة.
إن قطاع غزة يعيش وضعاً بيئياً وصحياً متدهوراً نتيجة الحصار وعدم توفر الإمكانيات والبنية التحتية اللازمة للإيفاء باحتياجات المواطنين، وإن العدوان الإسرائيلي الأخير قد فاقم المشكلات البيئية حتى خرجت عن السيطرة.
وفي ظل استمرار العدوان المتكرر من قوات الإحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً العدوان الأخير الذي بدأ في 7/7/2014، أدى إلى تدمير الآبار والخطوط الناقلة للمياه ومياه الصرف الصحي، ما أدى إلى تدهور الوضع البيئي والصحي وزيادة تلوث مياه التربة. كذلك أدى انقطاع التيار الكهربائي لعدة ساعات، وفي بعض الأماكن إلى أيام وأسابيع إلى توقف محطات الضخ والمعالجة عن العمل ما زاد من تعقيد المشكلة وتراكم وتدفق المياه العادمة في الشوارع والمناطق المفتوحة والبحر.
وكذلك أدى انقطاع التيار الكهربائي إلى توقف عدد كبير جداً من محطات تحلية مياه الشرب عن العمل، ما اضضر السكان إلى استعمال المياه للشرب دون معالجة، حيث أكدت تقارير دولية ومحلية أن 95% من مياه الشرب التي تصل للسكان أصلاً قبل العدوان، تعاني من تلوث يفوق الحد المسموح به محلياً وعالمياً.
لذا فإننا نحذر من التدهور في الوضع البيئي والصحي في قطاع غزة بشكل عام، نتيجة عدم معالجة المياه والصرف الصحي، وإن تدفق مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى البحر وإلى المناطق المفتوحة، سينتج عنها مشكلات صحية وبيئة مستقبلية.
ومن الملاحظ أن هناك نقصاً في إمدادات المياه، وهناك قلق من عدم حصول المواطنين على كميات المياه اللازمة، خاصة من مياه الشرب، فبسبب ضخامة المشكلة، يضطر الناس للشرب من أية مياه أمامهم، ويخزنون المياه في عبوات ملوثة أيضاً، كما أن النازحين في مراكز الإيواء لا يمكنهم الحصول على مياه كافية، سواء للشرب أو لتنظيف أجسامهم، مشيراً إلى أن هناك تخوفاً من انتشار الأمراض والأوبئة نتيجة نقص المياه وتلوثها في قطاع غزة، ونحاول بكل جهد، الاستفادة من إمكانيات المؤسسات الدولية لعمل شيء يخفف عن الناس، حيث قامت سلطة جودة البيئة بطلب رسمي للأمم المتحدة بإرسال بعثة دولية لتقصي وتقييم ما تم تدميره، وآثاره على البيئة.
من جهته اعتبر د. مازن زقوت، المختص بعلم السموم والبيئة المهنية، أن مشكلة المياه في غزة شكلت أرقاً كبيراً لسكان قطاع غزة في العقد الأخير، حيث أن التوازن بين استهلاك المياه الجوفية في القطاع بسبب ارتفاع الحاجة وزيادة عدد السكان من جانب، وبين التجديد الطبيعي للآبار الجوفية نتيجة الأمطار، والتي تعتبر المصدر الوحيد لهذا التجديد، قد اختل كثيراً باتجاه الاستهلاك، ما يؤدي وبشكل كبير ومتسارع إلى ارتفاع ملوحة المياه في الآبار الجوفية لدرجة لا تسمح باستعمال هذه المياه للشرب ولا حتى للاستعمال البيتي، ففي تقرير الأمم المتحدة توقع أن يصبح الخراب في الآبار الجوفية، والناتج عن تسرب مياه البحر المالحة لهذه الآبار، خراباً غير قابل للمعالجة أو الإصلاح بحلول عام 2020.
لقد شكل العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة بمثابة ضربة موجعة لوضع المياه في غزة، والذي هو بالأصل متردٍ بشكل كبير، حيث أن الآبار في المناطق الشرقية والشمالية وبعمق 3 كيلومترات، قد تم استهدافها وتدميرها كلياً أو جزئياً، مما يعني أن نصف مليون إنسان قد حرموا من توافر المياه، ناهيك عن العدوان الاسرائيلي الغاشم الذي أدى بالإضافة إلى تهجير قرابة النصف مليون فلسطيني، خصوصاً من المناطق الشرقية والشمالية واستيعابهم في مراكز للإيواء في المدارس والمؤسسات العامة، وبصورة متكدسة جداً، ومع انعدام توافر المياه للاستعمال البيتي لفترات طويلة، ما سيؤدي إلى تأثيرات سلبية على الصحة العامة لهؤلاء المهجرين، موضحاً أن المؤشرات الأولية بدأت بالظهور، حيث أن معدل الالتهابات الجلدية وحالات الإسهال عند الأطفال قد تزايدت بشكل مضاعف عن معدلاتها الطبيعية، بالإضافة إلى ارتفاع ملحوظ في عدد الأطفال الذين يعانون من التهاب السحايا الفيروسي، مشيراً إلى أن معدلات الإدخال في مستشفيات الأطفال قد تضاعف ثلاث مرات عن معدلها الطبيعي في مثل هذا الوقت من العام، وعلى وجه الخصوص، حالات الإسهال عند الأطفال.
لقد كان للعدوان الإسرائيلي تأثير عميق على المياه العادمة في قطاع غزة، فمن جهة، أدى إلى تدمير شبكة المياه العادمة (المجاري)، ونتيجة لذلك تدفقت هذه المياه للشوارع، ما قد يؤدي لتسربها إلى المياه الجوفية، ومن جهة أخرى، وبسبب انقطاع التيار الكهربائي المستمر والذي يؤدي إلى توقف عملية معالجة المياه العادمة وضخها إلى البحر دون معالجة، ما يفاقم الوضع البيئي هناك.
إن وضع المياه في قطاع غزة يحتاج إلى تدخل على المستويين العاجل والاستراتيجي، فعلى المستوى العاجل، فإن وقف العدوان الإسرائيلي يعتبر شرطاً أساسياً لبداية أية حلول عاجلة كانت أو إستراتيجية، ومن جهة أخرى، العمل وبشكل سريع على إصلاح الأضرار في الآبار الجوفية وشبكات المياه لتوفير المياه اللازمة للشرب والاستخدام البيتي بحدها الإنساني الأدنى، هذا بالإضافة إلى الفحص الدوري لعينات المياه من الآبار الجوفية المستخدمة، وخصوصاً الفحص البيولوجي والكيميائي، وهنا يجدر التأكيد على أهمية شمول هذه الفحوصات لتحديد معدلات الأملاح والمعادن والمبيدات أثناء الفحص، إن الدمار الكبير الذي لحق بالكثير من المنشآت الصناعية ينبهنا لأهمية وضرورة هذه الفحوصات، خصوصاً مع تزايد إمكانية تلوث التربة بمخلفات هذه المصانع نتيجة للقصف والدمار الذي لحق بها.
وفي المجال الاستراتيجي، فإن التوقف التام عن استخدام الآبار الجوفية في قطاع غزة والاستعاضة عنها بتحلية مياه البحر يعتبر الخيار الأمثل لحل مشكلة المياه في القطاع، ولذلك فإن توفير مشاريع ضخمة تعمل على تحلية مياه البحر وتوفير الكميات اللازمة يعتبر الحل الأمثل لتوفير الاحتياجات المتزايدة لسكان قطاع غزة من المياه، ومن جهة أخرى يوقف الخراب المستمر في الآبار الجوفية.