الحدث: كل شيء محتمل، لكن ما يقفز على جناح المفاجئة، يأخذنا إلى هلع يشل قدرتنا على تصور الاحتمالات!!
صوته مع هروب الفجر.. لاهث هلع ومقتضب لا يترك مساحة للتفاصيل:
- قُصف البيت, واضطررننا للمغادرة
- تعالوا لا تنتظروا..
جاءوا من فم الموت, زادهم حكايات الشهداء من البشر والحجر والشجر, لا يدرون ماذا ضاع من البيت, وما استقر, يلملمون أشلاء حكايات وأخبار عن الأهل والأحبة, الذين هربوا إلى المدارس وبيوت الأصدقاء..
صارت بيت حانون حكاية, بتجلياتها وعصبتها العائلية وتوحد أهلها عند النوائب, سجلت الفصل الأول في دفتر الحرب الأخيرة..
صديقي القاص بين الرجفة والذهول, والخوف على أسرته المركبة التي تبعثرت في مدارس اللجوء وبيوت الأصدقاء والأقارب والأصهار.. يحاول إعادة تركيب الصورة, يفشل أمام مشاغبات حفيده الذي لم يغادر حضنه, ولم يتخلََّ عن براءته ونزق الحفيد الذي يحمل اسمه بعد طول انتظار, فيأخذ الجد إلى ماض قريب وجنون أن تدور الدوائر وتخطف الطفل من حضنه..
في الليل وقد أصبحنا أسرة واحدة, نجلس بعد أن يهجع الصغار, وانتحاء الصبايا والنساء ركن الحكايات يقضمن أطراف الوقت.. يوسد الجد حفيده فخذه.. يزفر:
- ها نحن نعود لاجئين للمرة الرابعة
- كيف؟
- هو سر بيت حانون!!
يمسك بتلابيب الحكاية, يحدثني عن هجرة أهالي بيت حانون بعد النكبة والهجرة الثانية إبان العدوان الثلاثي, والثالثة التي شهدها صبيا مع النكسة.. بينما حفيده يحلم في حضنه, يزعنف بقدميه الطريتين وعلى شفتيه ابتسامة مشاغبة منتصرة..
ينقله من حضنه ويغطيه.. يضحك ألماً..
- هل تكون آخر الهجرات إلى ضاحية النصر, وهل هناك عاصم من الموت في الحرب؟
أسرح بعيدا, أحاول الوصول إلى ما يدور في خلد الرجل, أتسلل إلى وجهه, أسبر غور عينيه.. أرى رجلا آخر.. أكظم دهشتي وأنصت..
قبل يومين سألته أن يكتب شيئا عن الحرب قال:
- سأكتب بعد أن يختفي زبد الشعارات, سأسجل قصص الناس إذا كتب الله لنا عمرا يا صاحبي"..
هاجس الموت لم يفارقه.. الليلة الفائتة خرج يتمشى قليلا, ويتزود بالسجائر, وحاجات للصغار.. فجأة حدث قصف رج ضاحية النصر.. هرع الناس يستطلعون ويسعفون.. صرخت زوجته..
- أبوكم يا أولاد..
دقائق رن الهاتف..
- أنا بخير.. أنا في سيارة الإسعاف.
في المستشفى كان ما يزال تحت الصدمة, لا يصدق أنه يحدثنا.. كانت الشظايا تطرز جسده.. والطبيب يطمئنه. وفي الصباح كان شاحبا وحزينا, قلت أخرجه عن شروده وذهوله:
- ها هي الحكاية تطاردك في المدينة.
- اليوم عرفت, كيف يغادر الأحياء المسرح فجأة!
- واليوم رفعوا حطام السيارة من مكان القصف.
- ولو للأمكنة ذاكرتها..
احتضن حفيده, في خاصرته السليمة وكظم ألم الخاصرة المصابة التي ما زالت تنزف.. وأطبق شفتيه على ضجيج الصمت, بينما عين الطفل تتجول باستغراب بين الأسرة تتوقف عند الراقدين عليها, يحاول فك شفرات الألم, ويرهف بهلع لأصوات الأنين..
-----
* محمد نصار قاص وروائي فلسطيني, يقيم في بيت حانون, له العديد من الأعمال الروائية القصص القصيرة, وله اهتمامات أدبية متنوعة, لجأ الى ضاحية النصر بغزة بعد قصف بيته, وأصيب ليلة الاثنين الموافق 25/ 8 /2014 اثر قصف إسرائيلي لسيارة بالقرب من مستشفى الأطفال في ضاحية النصر بمدينة غزة.