السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إنتاج ظواهر التَّطرف الدِّيني واستثمارها بقلم: رائد دحبور

2014-08-25 11:19:24 PM
إنتاج ظواهر التَّطرف الدِّيني واستثمارها
بقلم: رائد دحبور
صورة ارشيفية

 

الحدث: يتم الآن الاعتداء على مجتمعات المنطقة العربية، في العراق وسوريا وغيرها من السَّاحات، ويتم في سياق ذلك الاعتداء على تاريخها وتراثها ورموزها الثقافية والدينية، ويجري تهديد نسيجها، ووصل الأمر إلى حدِّ محاولة  تصفية بعض طوائفها ومكوِّناتها وإثنيَّاتها ماديَّاً، من خلال التصفيات الجسديَّة بإعداماتٍ جماعيَّة ومجازر يندى لها الجبين، وتجري محاولة إزاحتها واقتلاعها. يجري كل ذلك بفعلِ جماعات وموجات التَّطرف الدِّيني، وتحت ستارِ المفاهيم الأصوليَّة، والأفكار التي تنموا على ضفاف التَّطرف والتشَنُّج الطَّائفي والمذهبي!!

يجب أنْ نعترف أنَّ ظواهر التطرف الديني قد تمَّ ويتم صناعتها وإنتاجها محليَّاً، على قاعدة الموروث الدِّيني الذي عجز حتى الآن عن التمييز بين ما هو إلهي وما هو إنساني، وذلك قبل أنْ نبحث في أيِّ سببٍ آخر محتمل يتّصِلُ بالعوامل الخارجيَّة، أو بنوايا وخطط القوى الأجنبيَّة، أو بكون تلك الظواهر قد جرى صناعتها وإنتاجها ورعايتها في الغرف السوداء، مع العلم أنَّه، وبلا شك، يجري استثمارها من قبل تلك القوى، لضرب إمكانيات تلك المجتمعات، ولضرب بيئة التعايش التي استمرَّت قروناً من الزَّمن، وصاغت، أو كادت، أنْ تصوغَ هويَّتها وشخصيَّتها على أساس التعدد والتنوُّع، وكذلك لإغراقها في أزماتٍ وجدانيَّة واجتماعية وسياسية ومعيشيَّة تفتك بآخر ما تبقَّى لها من آمالٍ بمواكبة الحداثة، وبصياغةِ حياةٍ مستقرَّة. لكنَّ كل تلك المحاولات لم تكُن لتفلح لولا توافر عناصر وعوامل البيئة الذَّاتيَّة، ولولا توافر المناخات الوجدانيَّة والثقافيَّة والتربويَّة التي تمتدُّ جذورها عميقاً في التَّاريخ، فهذه الظَّواهر هي في الحقيقة مومياتٍ تاريخيَّة تمَّ نفخ الرُّوح فيها من جديد!! والسؤال الأهم هو: من ذا الَّذي نفخَ فيها الرَّوح، حتَّى غَدت وحشاً مفترساً لا يهدد كياناتِ الدُّول فحسب، بل يهدد نسيج مختلف جوانب حياة مجتمعات المنطقة معنوياً وماديَّاً وفعليَّاً؟!

 نعم، يجب أنْ نواجه الحقيقة القائلة بأنَّ تلك الظواهر، هي، في الحقيقة، خلاصة الرُّكام المركوز في بطون الكتب الصَّفراء، وهي خلاصة النُّصوص التي بلغت حد التقديس، والتي تعود لعصورٍ من التَّخلف والانحطاط والانقسام والاضطراب السياسي والاجتماعي في صدر تاريخ الإسلام، وفي العصور التي تلت ذلك، وتواترت فيها كل أسباب وعوامل تشظِّي وتهتُّك الوعي، وميوعة الهويَّة والانتماء، وغياب العقلانية، ومثَّلت أساساً للفهم التاريخي والمنهجي المغلوط، الذي يقوم على قاعدة تقديس الرِّواية التاريخية، مع العلم أنَّ كل الرِّوايات التاريخية بحاجة إلى إخضاعها للمنطق العقلي، ولمنهج الفحص والتدقيق والتحليل، وملاحظة ما فيها من تناقضات تتصل بالظرف الزماني والمكاني وسياقات وتراتب وتراكب أحداثها ومجرياتها، حتَّى تثبت صحتها، وحتى يمكن اعتمادها كأحداث حصلت فعلاً، وحتَّى كروايات يمكن قبولها، وحتَّى لو توافرت جميع أسباب صحّتها واقعيَّاً، فينبغي أخذها في سياقها الزَّماني والمكاني والظَّرفي، وردِّها إلى ظروفها في المراحل التاريخيَّة التي يجب حصرها في عصرها الذي في الأغلب الأعم لا صلة له بعصرنا.

ويجب أنْ نعترف بإسهام المناهج التربوية والتعليمية، وبإسهام المعاهد والمؤسسات التعليمية الدِّينية، وخاصَّةً تلك التي تتخذ من المنهج السلفي الوهَّابي، دالَّةً لها في صياغة الوعي على الذَّات وعلى الآخر، مستَنِدَةً إلى إقصاء وإلغاء أي منهجٍ آخر، وكذلك إسهام وسائل الإعلام والفضائيات التي تنتشر كما الفطر في فضاءَات المنطقة، وتتخذ من ذات المنهج سبيلاً لها في بث المفاهيم والرؤى الطائفية، وفي النفخ في رياح المذهبية. 

بَيْدَ أنَّه يمكننا إجمال القول وباختصار: إنَّ ظواهر التَّطرف الدِّيني قد نبتت في بيئة الاضطراب الوجداني وخلل المنهج التربوية، وفي مناخات إشكاليَّة الوعي والهويَّة والانتماء، وأسهمت مفاعيل الاستبداد وغياب الحريَّات في توفير شروط نموِّها، وهي قد نمت في بيئتها الوجدانيَّة التي غذَّتها جذور السباب التَّاريخيَّة، ويجري استثمارها واقعياً وموضوعيَّاً من قبل القوى التي لم تُرِدْ لهذه المنطقة خيراً يوماً من الأيَّام.