تجليات
"عندما تتجلى مشهدية الحقيقة في أبهى صورها، تقفز الحكاية لصدارة المشهد والذاكرة معاً".. وحكايتنا التي لا يجب إنكارها، أننا في الضفة الغربية كما في كامل المحيط الإقليمي، تعرضنا طيلة العقد الماضي من زمن الرواية العربية الطويلة، إلى حالة ترويض على عدة مستويات، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما ننشده من حرية وكرامة وعدالة، وبالرغم من ذلك، بقى الشعور الإنساني بالحاجة الماسة لغد أفضل هو الشعور المسيطر على الوعي الجمعي بقصد أو دون قصد.
هذا الوعي الواضح وضوح الشمس في رابعة النهار، أسسه وارتقى به الفلسطيني في خضم مواجهته مع الآخر النقيض دون غيره، وهو ما نشهده اليوم في المواجهة الثالثة على التوالي مع أهلنا في قطاع غزة.
الجديد والمتطور في فعل فلسطيني الضفة الغربية هذه المرة، يكمن في وضوح الصورة التي تقول بشكل لا لبس فيه: إننا جميعاً مستهدفون بنفس القدر، سواء كنا في الضفة أو في غزة، وإن اختلفت الأدوات والسبل، ما دفع فلسطيني الضفة لإعادة اكتشاف نفسه، وابتكار أشكال جديدة من أشكال المواجهة رغم حالة الترويض التي تعرض لها، ووضعته في مأزق مصارعة الحياة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
هذه المواجهة المباشرة حتماً لا ترتقي لشكل المواجهة المسلحة، ولكنها أيضاً لا تقل عن مفهوم الانتفاضة الشعبية، وإن جاءت بأدوات وأساليب مختلفة ومتطورة عن الانتفاضتين السابقتين، فهي مختلفة من حيث الشكل والأدوات، ومتطورة من حيث الخصائص التي ترسخها عبر تعميق ارتقاء الشعور الوطني بالكرامة.
نعم، هي مجابهة ترتقي تماماً لفعل الانتفاضة، لكون النتائج في مثل صراعنا الطويل والمرير لا تأتي بالضربة القاضية، وإنما بالنقاط، فكما هي ضربات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تسجل نقاطاً عسكرية وسياسية واضحة، فإن فعل الضفة من مجابهة اقتصادية حيناً، وشعبية وإعلامية وثقافية واجتماعية أحياناً أخرى، تسجل نقاطاً اقتصادية ونفسية واضحة المعالم، ولا تقل أهمية عن الفعل المسلح.
هنا جدير بنا الانتباه إلى أن شكل المجابهة هذه المرة قد أخذ أبعاداً أخرى، لربما لم نخطط لها سابقاً، ولكن اللاوعي البشري داخلنا اشتغل عليها طيلة العقود الستة الماضية، ألا وهي "مجابهة ثقافة الوعي الإنساني، في مواجهة ثقافة التكنولوجيا" وارتفاع يد الأولى عن الثانية، لأسباب غاية في البساطة والتعقيد في آن، هي بساطة الوعي المتجذر داخل كل فلسطيني أينما وجد، بأن الحق سلاح سينتصر عاجلاً أو آجلاً، وتعقيد دفع الفلسطيني يومياً للبحث الدائم والدؤوب عن سبل تطوير مجابهته في مواجهة آلة الموت الجبانة التي يحتمي المحتل خلفها، خوفاً على حياة نربحها كلما واجهنا الموت وجهاً لوجه.
إن فعل الانتفاضة هذه المرة، هو من وضع اللبنة الأولى اجتماعياً لمعالجة أثار الانقسام البغيض الذي تجرعناه لسبع سنوات عجاف، ولم تأت عليه اتفاقية الشاطئ لا من قريب، ولا من بعيد.. وهو نفسه الذي يؤلم الإسرائيلي اقتصادياً، كما لم يتألم من قبل، طيلة عمر القضية منذ ستة عقود مضت.. وهو نفسه الذي وضع وما زال، الإسرائيلي المحتل في حالة تأهب دائم على طول الضفة الغربية بكافة مدنها وقراها ما دام العدوان قائماً.. وهو نفسه الذي تمكن بصورة مبدعة من الانتصار على المستوى الإعلامي لكسب الرأي العام الغربي، الذي بات اليوم وبخلاف أي وقت مضى، يتفاعل بأساليب وأدوت مختلفة عبر انتقاله من فعل التظاهر، إلى ممارسة الفعل المجابه، وهو ما تجلى وما زال في "المقاطعة الغربية" للبضائع الإسرائيلة بشكل أوجع وسيوجع المحتل إلى حد لم يتوقعه من قبل.
أنا لا أقول إن ما ذكر أعلاه كاف، ولكن أقول إن المطلوب اليوم، وعوضاً عن محاولات البعض منا للذهاب بعيداً في محاولة العودة لمظاهر الانقسام، أن نبني على ما تحقق من انتصار مصدره الأساس هو ارتقاء الوعي الجمعي بالحق وسبل الوصول إليه.. علينا ألا ننجر وراء المهاترات التي لم تكن يوماً، ولن تكون، في صالح القضية، كما هو جدير بنا أن نعمق التفكير في سبل تطوير ما وصلنا إليه، للإبقاء على وهج المجابهة مشتعلاً، وإنْ توقف العدوان.. علينا أن نعي تماماً أننا اليوم، شاء من شاء وأبى من أبى، نمارس فعل الانتفاضة وإن كانت بأدوات وخصائص مختلفة.